فلما ضاق به بعث خادمه ليشتريه، و يذبحه، و يطعمه من لحمه، و دعا إلى ذلك صديقاً له، وقعدا ينتظران الغداء ويحدِّثه عن هذا الديك، وما كان يلقى منه من إزعاج، وما وجده بعده من لذة وراحة، ففكَّر في أمان، واشتغل في هدوء، فلم يقلقه صوته، ولم يزعجه صياحه..
ودخل الخادم بالطعام معتذراً، إن الجار أبى أن يبيع ديكه، فاشترى غيره من السوق، فانتبه (كانت) فإذا الديك لا يزال يصيح !
فكّرت في هذا الفيلسوف العظيم فرأيته قد شَقِيَ بهذا الديك؛ لأنه كان يصيح، وسَعِد به وهو لا يزال يصيح، ما تبدَّل الواقع، ما تبدَّل إلا نفسه، فنفسه هي التي أشقته لا الديك، ونفسه هي التي أسعدته، وقلت: مادامت السعادة في أيدينا فلماذا نطلبها من غيرنا؟ ومادامت قريبة منا فلماذا نبعدها عنَّا؛ إذ نمشي إليها من غير طريقها، ونلجها من غير بابها؟
إننا نريد أن نذبح (الديك) لنستريح من صوته، ولو ذبحناه لوجدنا في مكانه مائة ديك؛ لأن الأرض مملوءة بالدِيَكة، فلماذا لا نرفع الدِيَكة من رؤوسنا إذا لم يكن أن نرفعها من الأرض؟ لماذا لا نسدُّ آذاننا عنها إذا لم نقدر أن نسدَّ أفواهها عنَّا؟ لماذا لا نجعل أهواءنا وفق ما في الوجود إذا لم نستطع أن نجعل كل ما في الوجود وفق أهوائنا؟
أنام في داري فلا توقظني عربات الشارع وهي تزلزل بسيرها الأرض، ولا أصوات الباعة وهي ترعد في الجو، ولا أبواق السيارات وهي تُسْمِعُ الموتى، وتوقظني همسة في جوِّ الدار ضعيفة، وخطوة على ثراها خفيفة، فإن نمت في الفندق لم يوقظني شيء وراء باب غرفتي، فإن كان نومي في القطار لم يزعجني عن منامي حديث جيراني إلى جنبي، ولا صوت القطار وهو يهتز بي؛ فكيف احتملت هنا ما لم أكن أحتمله هناك؟ وآلمني هناك ما لم يؤلمني هنا؟
ذلك لأن الحس كالنور، إن أطلقته أضاء لك ما حولك فرأيت ما تحب و ما تكره، و إن حجبته حجب الأشياء عنك، فأنت لا تسمع أصوات الشارع مع أنها أشد وأقوى، وتسمع همس الدار وهو أضعف وأَخْفَت؛ لأنك وجَّهت إلى هذا حسَّك، وأدخلته نفسك؛ فسمعته على خُفُوته كما ترى في الضياء صغائر الأشياء، وأَغْفَلتَ ذلك وأخرجته من نفسك، فلم تَسْمَعه على شدته، وخفي عنك كما تختفي في الظلام عظائم الموجودات.
فلماذا لا تَصْرِفُ حسَّك عن كل مكروه؟ إنه ليس كل ألم يدخل قلبك، ولكن ما أدخلته أنت برضاك، وقَبِلْتَه باختيارك، كما يُدْخِلُ الملكُ العدوَّ قلعته بثغرة يتركها في سورها، فلماذا لا نقوِّي نفوسنا حتى نتخذ منها سوراً دون الآلام؟
إني أسمعكم تتهامسون، تقولون: (فلسفة و أوهام) نعم، إنها فلسفة، ولكن ليست كل فلسفة هذياناً، وإنها أوهام، ولكن الحياة كلها أوهام تزيد وتنقص، ونسعد بها ونشقى، أو شيء كالأوهام.
يحمل الرجلان المتكافئان في القوة الحمل الواحد، فيشكو هذا ويتذمر؛ فكأنه حمل حملين، ويضحك هذا؛ ويغني فكأنه ما حمل شيئاً.
ويمرض الرجلان المتعادلان في الجسم المرض الواحد، فيتشاءم هذا ويخاف، ويتصور الموت، فيكون مع المرض على نفسه؛ فلا ينجو منه، ويصبر هذا ويتفاءل ويتخيل الصحة؛ فتسرع إليه، ويسرع إليها.
ويحكم على الرجلين بالموت؛ فيجزع هذا، ويفزع؛ فيموت ألف مرة من قبل الممات، ويملك ذلك أمره ويحكِّم فكره، فإذا لم تُنجه من الموت حيلته لم يقتله قبل الموت وَهْمُهُ.
وهذا (بسمارك) رجل الدم والحديد، وعبقري الحرب والسِلْم، لم يكن يصبر عن التدخين دقيقةً واحدة، وكان لا يفتأ يوقد الدخيّنة من الدخينة نهاره كله فإذا افتقدها خلَّ فكرُه، وساء تدبيره.
وكان يوماً في حرب، فنظر فلم يجد معه إلا دخينة واحدة، لم يصل إلى غيرها، فأخَّرها إلى اللحظة التي يشتد عليه فيها الضيق ويعظم الهم، وبقي أسبوعاً كاملاً من غير دخان، صابراً عنه أملاً بهذه الدخينة فلما رأى ذلك ترك التدخين، وانصرف عنه، لأنه أبى أن تكون سعادته مرهونة بلفافة تبغ واحدة.
وهذا العلامة المؤرخ الشيخ الخضري، أصيب في أواخر عمره بتوهم أن في أمعائه ثعباناً، فراجع الأطباء، وسأل الحكماء؛ فكانوا يدارون الضحك حياءاً منه، ويخبرونه أن الأمعاء قد يسكنها الدود، ولكن لا تقطنها الثعابين، فلا يصدق، حتى وصل إلى طبيب حاذق بالطب، بصير بالنفسيات، قد سَمِع بقصته، فسقاه مُسَهِّلاً وأدخله المستراح، وكان وضع له ثعباناً فلما رآه أشرق وجهه، ونشط جسمه، وأحس بالعافية، ونزل يقفز قفزاً، وكان قد صعد متحاملاً على نفسه يلهث إعياءاً، و يئن ويتوجع، ولم يمرض بعد ذلك أبداً.
ما شَفِي الشيخ لأنَّ ثعباناً كان في بطنه ونَزَل، بل لأن ثعباناً كان في رأسه وطار؛ لأنه أيقظ قوى نفسه التي كانت نائمة، وإن في النفس الإنسانية لقوى إذا عرفتم كيف تفيدون منها صنعت لكم العجائب.
تنام هذه القوى، فيوقظها الخوف أو الفرح؛ أَلَمْ يتفق لواحد منكم أن أصبح مريضاً، خامل الجسد، وَاهِيَ العزم لا يستطيع أن ينقلب من جنب إلى جنب، فرأى حيَّة تقبل عليه، ولم يجد من يدفعها عنه، فوثب من الفراش وثباً، كأنه لم يكن المريض الواهن الجسم؟ أو رجع إلى داره العصر وهو ساغب لاغب، قد هَدَّه الجوع والتعب، لا يبتغي إلا كُرْسِيَّاً يطرح نفسه عليه، فوجد برقية من حبيب له أنه قادم الساعة من سفره أو كتاباً مستعجلاً من الوزير يدعوه إليه ليرقي درجته، فأحسَّ الخفة و الشبع، وعدا عدواً إلى المحطة، أو إلى مقر الوزير؟
هذه القوى هي منبع السعادة. تتفجر منها كما يتفجر الماء من الصخر نقيَّاً عذباً، فتتركونه وتستقون من الغدران الآسنة، والسواقي العكرة !
يا أيها القراء:
يصاب أحدكم بصداع أو مغص، أو بوجع ضرس فيرى الدنيا سوداء مظلمة؛ فلماذا لم يرها لما كان صحيحاً بيضاء مشرقة؟ ويحمى عن الطعام ويمنع منه، فيشتهي لقمة الخبز ومضغة اللحم، ويحسد من يأكلها؛ فلماذا لم يعرف لها لذتها قبل المرض؟
لماذا لا تعرفون النعم إلا عند فقدها؟
لماذا يبكي الشيخ على شبابه، ولا يضحك الشاب لصباه؟
لماذا لا نرى السعادة إلا إذا ابتعدت عنَّا، ولا نُبْصِرها إلا غارقة في ظلام الماضي، أو مُتَّشحة بضباب المستقبل؟
كل يبكي ماضيه، ويحن إليه؛ فلماذا لا نفكر في الحاضر قبل أن يصير ماضياً؟
إنا نحسب الغنى بالمال وحده، وما المال وحده؟ ألا تعرفون قصة الملك المريض الذي كان يُؤْتى بأطايب الطعام فلا يستطيع أن يأكل منها شيئاً، لماَّ نَظَر من شباكه إلى البستاني وهو يأكل الخبز الأسمر بالزيتون الأسود، يدفع اللقمة في فمه، ويتناول الثانية بيده، ويأخذ الثالثة بعينه، فتمنى أن يجد مثل هذه الشهية ويكون بستانياً؟
فلماذا لا تُقدِّرون ثمن الصحة؟ أَما للصحة ثمن؟
من يرضى منكم أن ينزل عن بصره و يأخذ مائة ألف دولار؟ من يبيع قطعة من أنفه بأموال الشربتلي؟
أما تعرفون قصة الرجل الذي ضل في الصحراء، وكاد يهلك جوعاً وعطشاً، لما رأى غدير ماء وإلى جنبه كيس من الجلد، فشرب من الغدير، وفتح الكيس يأمل أن يجد فيه تمراً أو خبزاً يابساً، فلما رأى ما فيه، ارتد يأساً، وسقط إعياءاً. لقد رآه مملوءاً بالذهب !