“نزهة .. حج هذا العام” .. هذا ما يردده الحجاج بكل شفافية، يزفون هذا الجملة في مهرجان من الفرح بتيسير الله تعالى لهم، والشكر له على منته وفضله، ثم للأيدي المضيئة التي لا تكف عن العطاء، والعيون الساهرة التي لا تغفو إلا إذا اطمأنت على سلامة زوار الله، وراحة ضيوف الرحمن، حتى ليخيل إليك أن الذين يقدمون الخدمات من مدنيين وعسكريين أكثر من الحجاج أنفسهم، وأكثر حرصا منهم على أنفسهم.
وماذا في المقابل .. تَمتُّعٌ بهذه الخدمات الراقية، وأمنٌ وطُمأنينةٌ في كنف الله تعالى، فكلما احتاج الحاج أمرا وجده بين يديه، أو من يدله عليه، إرشاد في المرور، وإرشاد في النسك، وإرشاد في الصحة، ولكن ثمة إرشاد مفقود، وثقافة مفقودة تماما، هي ثقافة النظافة.
أحد أساتذة جامعة الملك فيصل الوافدين يحج لأول مرة، كان إلى جواري يتمعر وجهه حزنا وألما وهو يرى المخلفات تغطي وجه عرفات الجميل ونحن خارجون منها، بعد أن قدمنا عليها وهي في غاية النظافة والترتيب، ثم ندخل مزدلفة ونشاهد ما لا يقبل الإنسان منا أن يراه في المزابل ذاتها، لأن المزابل الحديثة لا تصدم المشاهد ولا تؤذيه، بل تستبطن كل ما يرمى فيها بأساليب تقنية عالية، وهو ما نخشى أن نراه في (منى) كذلك بعد انتهاء أيام التشريق، فلماذا كل هذا التخلف الثقافي؟
أحد مسلمي (المجر) الجدد جاء إلى الحج وهو يتوقع أن يرى الأرض المقدسة في غاية النقاء والنظافة، فعاد يبكي حزنا وهو يردد: لو لم يكن من الأمر عند المسلمين في هذه البلاد الطاهرة إلا شرفها عند الله تعالى وقداستها وقدرها العظيم، وأنه اختارها لتكون متنزل وحيه، ومنبع دينه الخاتم، وأنها مواطئ الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ وآله الأطهار، وصحابته الأبرار، لكفى ذلك ـ من الشعور الدافع ـ ألا يرضوا بأن يروا فيها ورقة مرمية، فضلا عن أن يكونوا هم سبب هذه الحال الرديئة البائسة.
في مكة تجربة رائعة رائدة في النظافة طوال العام، لا فرق في نتائجها ـ أبدا ـ بين موسمي الحج ورمضان والإجازات التي يتكثف فيها الناس بالملايين، وبقية العام، هي تجربة (نظافة الحرم).
تواجد عمال النظافة مذهل للغاية، فعيونهم تدور بين أقدام الناس وترقب أيديهم في كل لحظة، فلا يمكن أن ترى حبة مرمية إلا ولها لاقط، ولا تلتفت لتبحث عن صندوق إلا سبقك العامل بالصندوق المتحرك في يده، قبل أن تصل إلى الصناديق الأنيقة المبثوثة من حولك، وفي المقابل فإن شركات النظافة تكاد تغيب عن مشعر عرفات ومزدلفة، وكأنها تترك الوضع كما هو؛ لتأتي بالمعدات الثقيلة؛ لتشن غاراتها في اليوم الثاني مباشرة، ويكون التنظيف أكثر سهولة ويسرا عليها، ولكنه ليس المأمول منها بالطبع، فالحج واجهة حضارية لبلادنا ينبغي أن تكون ناجحة من كل الجوانب.
لا أشك في حرص المسؤولين عن الحج على كل ما يجعل الحج أكثر يسرا وصحة وأمنا، ولكني أتعجب من إهمال هذه الشركات وقلة أو انعدام وجودها في عدد من الأماكن التي يكثر فيها الحجاج في هذه المشاعر.
والمسؤولية موزعة؛ فكل حاج مسؤول عن المربع الذي يستفيد منه، وينبغي أن يحمل معه روح هذا الدين الذي جاء من أجل استكمال أركانه، (دين النظافة)، الذي يقدم لمعظم عباداته بالطهارة والوضوء والغسل، ويجعل إماطة الأذى عن الطريق صدقة.
و(الحملات) يجب أن تتحمل جزءا من المسؤولية أيضا، وهي قادرة على ذلك، فكما تحرص على نظافة داخل مخيماتها وأناقتها؛ كسبا لعملائها، فيجب أن تكون ـ كذلك ـ مسؤولة عن إطلالتها على شارعها، وبهذا تقل هذه المشكلة حتى تضمحل بإذن الله، وعيدكم مبارك.