الحب فطرة إنسانية، وحاجة وجدانية ونفسية، فالعواطف والمشاعر هي التي تجعل حياتنا سعيدة مشرقة، وإلا كيف ستكون الفتاة أمًا وزوجة؟ ويكون الشاب أبًا وزوجًا؟! فبالحب تغفر الزلات، وتقال العثرات، وتشهر الحسنات، ويوم يغيب الحب تضيق النفوس وتتولد المشاكل والخصوم. ومما لا شك فيه أن الحياة الزوجية المبنية على الحب والتفاهم بين الزوجين يُكتب لها النجاح والسعادة والاستمرارية. ولكن يبقى السؤال: متى يكون هذا الحب؟ وكيف يبدأ ويزدهر بصورة عفيفة يقبلها العرف والشرع؟
إن الحب لا يتكون داخلنا فجأة، أو بمجرد نظرة نجد أنفسنا غرقى فيه !! إن هذا النوع من الإعجاب الرومانسي الحالم الهش إن وجد إذا اصطدم بواقع الحياة، وتم الزواج على أساسه فقط ينتهي بالفشل حتما.
أما الحب الذي يبدأ تدريجياً بالميل العاطفي ثم الود والقبول وفق أسباب منطقية، ويرتقى تدريجياً بالعشرة الزوجية فهو «حب واقعي» تجد فيه نفسك تحب زوجتك بجميع ما فيها من مميزات، ومتقبلاً وراضياً بعيوبها وهي كذلك أيضا.
وأنجح زواج هو الزواج الذي يقوم على التكافؤ أولا ثم الحب ثانيا، لأن الحب الرومانسي المجرد يذهب سدى بعد فترة قصيرة من الزواج، ويحل محله نوع آخر من الحب أكثر هدوءًا وأقل سخونة، هو حب من نوع جديد مبني على ما يحمله كل طرف تجاه الآخر من احترام وشعور بالتكافؤ والتآزر.
وتؤكد الإحصائيات أن الزواج التقليدي من أثبت وأصمد أنواع الزواج مقارنة بالزواج الذي تم عن طريق «الحب العذري» كما يقولون عنه.. ونعني بالتقليدي، الزواج الذي يقوم على أسلوب من التعارف والتشاور مع الأهل، وترشيح وتواصل علني بين الشاب والفتاة في حضور الأهل، وللأمر بعد ذلك أن يسير في المسار الطبيعي من قبول عاطفي، واقتناع عقلي يتنامى بعد الزواج، بالتفاهم والمودة والتسامح والتنازل المتبادل.
فقد جاء في إحصائية مصرية أن 88% من الزيجات التي تتم نتيجة الميل العاطفي البحت انتهت بالطلاق، بينما لم تنته بالطلاق سوى 12% من الزيجات التقليدية التي تتم بمشاركة أهل الشاب وأهل الفتاة.
كما تقول دراسة أعدها “د. إسماعيل عبد الباري” ـ أستاذ علم الاجتماع-: “إن ثلاثة أرباع حالات الزواج التي تمت بعد قصة حب فشلت تماما وانتهت بالانفصال بين الطرفين، أما الزواج الذي يتم عن طريق الخاطبة أو الأقارب والأصدقاء والجيران فإن نسبة نجاحه تتعدى 95 %”.. ومرجع ذلك إلى أن الذَين يتزوجان نتيجة الميل العاطفي – ويسمونه الحب – لا يبصران صفات كثيرة يجب أن يعرفها كل منهما عن الآخر.. إنهما ينظران بعين العاطفة وحدها، وعين العاطفة لا ترى كل شيء، فإذا ما تم الزواج وهدأت العاطفة المتأججة، صحت عيون أخرى، وصارت ترى ما لم تكن تراه عين العاطفة.
يقول الدكتور “صول جوردون” – الأستاذ المحاضر في جامعة (سيراكيوز) الأمريكية: “حين تكون في حالة حب فإن العالم كله – بالنسبة إليك – يدور حول شخص من تحب، ويأتي الزواج ليثبت عكس ذلك، ويهدم جميع تصوراتك، بعد أن تكتشف أن هناك عوالم أخرى كان لابد أن تنتبه لوجودها .. إنها عوالم المفاهيم والقيم والعادات “.
ويضيف جوردون متسائلا: ” لماذا يكون الزواج أكثر نجاحا حين لا يسبقه ما يسمى الحب؟
ويجيب فيقول: “مع الميل الشديد لا يستطيع الشاب أو الفتاة أن يقيّم مختلف جوانب شخصية الآخر، ولا يستطيع أن يتعامل معه بعقلانية، لأنه دائما يجد التبريرات لما يفعله الآخر، وفي أحسن الأحوال يأمل في أن كل شيء سوف يتغير بعد الزواج، ولكن الوقائع أثبتت أن ذلك غير صحيح، لأن كلا الطرفين حين يتعودا الاستحسان من الآخر لا يمكن أن يتحمل النقد منه أو اللوم بعد الزواج حول وضع معين، يعرف يقينا أنه لم يضايقه من قبل، والدليل أنه لم يعترض عليه، ولم يضع ملاحظة ما حوله”.
ويدندن جوردون حول هذا المعني بقوله: “حين يسيطر الحب في العلاقة، فإن الواحد لا يرى الآخر في الحقيقة بل في إطار من المثاليات، ولذلك فهو يتجنب الانتقادات ويتجنب حتى إثارة أي موضوع يشعر أنه لا يروق له، وهكذا يستمر حبا سطحيا لا يرى الواحد في الآخر إلا أحلامه وأمانيه، فلا يستطيع -من ثم- أن يفكر فيه وفي تصرفاته بعقلانية حقيقة”.
ويؤكد ذلك المفهوم الدكتور “جوردون” في دراسة ميدانية له موضحا أن 85% من زيجات الحب والغرام تنتهي بالطلاق، أو بالمشكلات التي تنغص حياة الزوجين، وتذهب ما كان بينهما من حب؛ بينما نجد في المقابل أن الزيجات القائمة على العقل والاختيار التقليدي نجحت واستمرت”.
ويفسر “جوردون” ذلك بأن “النوع الأول من الزيجات تظهر العيوب بجلاء بعد الزواج بعد أن تكون اللحظات الجميلة ذابت والعواطف تبخرت والمشاعر الرقيقة ذهبت أدراج الرياح، وهو زواج يؤخر إلى الوراء لأن المتحابين يهملان عملهما أو دراستهما وعلاقاتهما الاجتماعية، ويقضيان معظم الوقت في مطارحة الغرام وتبادل عبارات الهيام، فتكون النتيجة أن 85% من زيجات الحب تنتهي بالطلاق والفشل، بينما لا تتجاوز تلك النسبة 5% في الزيجات التقليدية التي تعتمد على العقل والتريث، ولا تستند إلى الاندفاع العاطفي فتنهار عند أول منعطف”.
هذا ومن جانب آخر فقد ذكر باحثون بريطانيون في دراسة حديثة: أن الحب بالفعل أعمى! سواء كان حب الأم لطفلها الوليد أو لوالده. حيث أظهر مسح بالأشعة لأدمغة عشرين من الأمهات الشابات أن هناك منطقة معينة بالمخ تنشط عندما يتطلعن لأطفالهن الرضع بنفس طريقة نشاطها عند التطلع إلى صور أحبائهن من الأزواج، وأن المنطقة بالدماغ المسئولة عن التفكير النقدي تتوقف عن العمل آنئذ. وهذه المنطقة تمثل النظام المسئول عن التقديرات السلبية، بحيث تمنع الإنسان من اكتشاف العيوب.
وقديما كانت العرب في الجاهلية إذا أحب رجل امرأة وعشقها، فإنه لا يتزوجها في الغالب، حتى لا يخفت وهج ذلك الحب أو يزول بالكلية، وعندما جاء الإسلام عكس هذا المفهوم تماما، فحثّ كل متحابين على ضرورة الزواج، كما قال الرسول صلى الله عليه و سلم : “ما رأيت للمتحابين مثل النكاح ” ، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].. فسرها ابن كثير بقوله: “وجعل بينهم وبينهن مودة وهي المحبة، والرحمة وهي الرأفة، فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها أو رحمة بها أو للألفة بينهما وغير ذلك”
وذلك بلا شك معنى أشمل وأرقى وأسمى بكثير من حب تلك الصور الخيالية التي تصورها لنا الأفلام والروايات.
إن الحب يجب أن يكون أساساً رئيسياً في الزواج .. الحب الذي يعني جاذبية متبادلة بين شخصين، ولهذه الجاذبية كيانها الخاص في حياتهما، وليس مجرد رغبة جنسية فقط، فمثل هذه الرغبة موجودة عند جميع البشر، ولكنها لا تكون حباً إلا إذا تميزت في شخص معين مميز في أعيننا عن بقية الناس، وأضيف إليها صفات الوفاء والولاء والارتباط، والإيمان العميق والاحترام المبني على الثقة.
وهذا لا يعني مطلقاً أننا نقيم من «الحب» أساساً وحيداً للزواج الناجح، فرغبة الوالدين ورضاهما ومشورتهما من أنفع الأمور للفتيات والفتيان، ولها أهميتها في كل زواج متين الأواصر. فقد يبدي الوالدان ملاحظات قيمة لا يستطيع الشاب أن يراها، لما لهما عمق المعرفة بالحياة ورصيد من التجارب والخبرة يفتقدها الشباب في مقتبل العمر.