إن الحمد لله نحمده ونستعين به ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، إنه من يهدي الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. أما بعد:
خلق الله سبحانه وتعإلى الإنسان وهو يعلم من خلق ، والخالق هو الذي يعرف كيف يصير الإنسان سويا ، ووضع لذلك القوانين السماوية ، وهو الذي يعرف ماذا يفسد الإنسان ، وهو الذي يعرف طريق وقايته وصيانته ، وهو الذي يعرف طريقة علاجه وصلاحه ،ويؤكد ذلك قوله تعإلى : } أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ{ (سورة الملك،14) ، وعليه فالقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة والعقائد والتعاليم الدينية الإسلامية سبقت العلم والعلماء المحدثين الذين حاولوا الغوص في أعماق النفس البشرية والخروج بآراء ونظريات في النفس الإنسانية والشخصية السوية واللاسوية ولا ننسى فضل العلماء المسلمين الذين نقلوا العلوم في الغرب، بواسطة ترجمتهم لكتب الحضارة اليونانية ، مع إضافتهم لكثير من العلوم الإسلامية. ويهتم العلماء والباحثون من كافة الأديان بالارشاد والعلاج النفسي الديني مؤكدين أهمية القيم الدينية في عملية العلاج النفسي وضبط السلوك ، ولقد تناولت كثيرا من البحوث والدراسات المنحى الديني في علاج الاضطرابات النفسية من بينها دراسة الرعاية النفسية للأولاد في هدى القرآن الكريم الذي قاما به كل من زهران وسرى ( 1990 ) ، ودراسة أخرى قامت به البنا ( 1990 ) حول التخفيف من القلق بواسطة الأذكار والأدعية.
ويهدف الارشاد النفسى الدينى إلى تحرير الفرد المضطرب من مشاعر الإثم والخطيئة التي تهدد أمنه النفسي، ومساعدته على تقبل ذاته وإشباع الحاجة إلى الأمن والسلام النفسي . ويحتاج هذا الارشاد إلى المرشد المؤمن الذي يتبع تعاليم دينه ويحترم الأديان السماوية الأخرى، فالارشاد النفسى الدينى يعد عملية يشترك فيها المرشد والمسترشد ، ويتم خلالها إجراءات مثل : الاعتراف والتوبة والاستبصار والتعلم ويلجأ المسترشد إلى الله بالدعاء ، مبتغيا رحمته، مستغفرا إياه ، ذاكرا ، صابرا ، متوكلا عليه .
وتبرز فى الوقت الراهن حاجة المجتمعات إلى الارشاد النفسى الدينى ،ولعل ذلك راجع إلى مجموعة من الاسباب،وهى:
1) تشهد المجتمعات حالة من تزايد الوعي بالهوية الثقافية ، من خلال البحث عن معالم قومية لعلم النفس بصفة عامة ، والإرشاد النفسى بصفة خاصة ، استناداً لما أشارت اليه العديد من الدراسات والأبحاث إلى عدم ملاءمة أساليب الإرشاد الأخرى للمجتمعات الإسلامية .
2) يعد نقل الإرشاد من المجتمعات الغربية إلى المجتمعات الإسلامية، ليس مناسباً ، لأنه ليس النموذج الأمثل للتطبيق في هذه المجتمعات ، لاعتبارات كثيرة من أهمها ما يلي:
– يعد نقل الإرشاد من مجتمع إلى مجتمعات أخرى تختلف عنها في عقيدتها ومناهج الحياة فيها من الأخطاء المنهجية ما ينبغي إعادة النظر فيها ، لأن الإرشاد لا يمارس في معزل عن قيم وعادات وفلسفة الحياة والمجتمع الذي يطبق فيه.
– وجود فروق جوهرية بين الثقافة الغربية التي نشأ فيها النموذج الإرشادي والثقافة العربية الإسلامية التي ينتقل إليها ، وتتلخص هذه الفروق في : فلسفة الحياة ونظامها ، طبيعة الإنسان وأهدافه وغاياته في الحياة ، والأخذ بالأسباب والتوكل على الله .
– أهمية التأصيل الإسلامي للإرشاد النفسى ،والذى ادركه الكثير من علماء النفس في البيئة الإسلامية ،فأخذوا ينقبون في القرآن الكريم والسنة الشريفة واجتهادات علماء المسلمين ، مما يسهم في بناء علم نفس إرشادي مرتبط بالثقافة الإسلامية ، و لقد بدأت تظهر منذ بداية الستينات حتى الآن المقدمات التي قام بها علماء النفس التي تنادي بأهمية الإفادة من التعاليم والقيم الدينية الإسلامية في الإرشاد النفسي والصحة النفسية، وترى أن الإيمان الحقيقي بالله قوة هائلة تمد الإنسان المتدين بطاقة روحية تعينه على تحمل مشاق الحياة وتجنبه القلـق الناتج عـن الاهتمام بالحياة المادية ، وتمثلت تلك الاتجاهات في كتابات عديدة منها :
عبد الوهاب حمودة (1962( القرآن وعلم النفس، ومحمد ماهر عمر (1983) ملامح علم نفس إسلامي، و حسن محمد الشرقاوي (1984) نحو علم نفس إسلامي، وسيد عبد الحميد مرسي (1985) سلسة دراسات نفسية إسٍلامية “الشخصية السوية”، ومحمد عثمان نجاتي (1987) القرآن وعلم النفس، والحديث النبوي وعلم النفس (2000)، ومحمد عبد الفتاح مهدي (1990) نحو علم نفس إسلامي “العلاج النفسي في ضوء الإسلام”وسيكولوجية الدين والتدين” (2002)، ورشاد علي عبد العزيز موسى (1993) علم النفس الديني، أساليب العلاج النفسي في ضوء القرآن الكريم والسنة النبوية (2001)، الإرشاد النفسي في حياتنا اليومية في ضوء الوحي الإلهي والهدي النبوي (2001)، العلاج الديني (2001)، محمد يوسف خليل (1994)، تلاوة القرآن الكريم وأثرها على اطمئنان النفس، ومحمد عوده ، كمال مرسي (1994 ) الصحة النفسية في ضوء علم النفس والإسلام، وعبد العلي الجسماني (1996) علم النفس القرآني والتهذيب الوجداني، ومصطفى محمود (1998) علم نفس قرآني جديد، وعبد الرحمن محمد العيسوي (2001) سيكولوجية الإسلام والإنسان المعاصر، ومحمد محروس الشناوي (2001) بحوث في التوجيه الإسلامي للإرشاد والعلاج النفسي، ومحمد رمضان محمد (2006)، الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في علم النفس والتحليل النفسي.
– تزايد الاضطرابات النفسية في المجتمع الغربي في العقدين الماضيين ، إلا أنها أخذت في التزايد ، بالرغم من نمو الإرشاد، مما يدل على عدم قدرته على تحقيق أهدافه في تلك المجتمعات .
– اختلاف قيم المجتمع العربي الإسلامي عن قيم المجتمع الغربي في العقيدة ، ومنهج الحياة الذي ترتب على اختلاف ثقافتهما ، الأمر الذي يؤدي بطبيعة الحال إلى اختلاف طبيعة الإرشاد والحاجة اليه وأهدافه في مجتمعنا العربي عن المجتمع الغربي .
– الإرشاد والعلاج النفسى الفعال هو الذي يرتبط بثقافة المجتمعات ويتفق مع معتقداتها وقيمها، ويساند نظرة الإنسان فيها إلى الحياة ، وعلى المرشد أو المعالج النفسى أن يكون واعياً بخصوصيات ثقافة المسترشد حتى يرشده ويعالجه في إطارها .
– إن حالة الانفصام أو الانفصال بين الدين المشوه في الحضارات الغربية والتكنولوجيا ا لحديثة هو الذي يشكل مشكلة الإنسان المعاصر، فعدم الالتقاء يبن الفكر الديني وبين الفكر التكنولوجي خلق فجوة أدت إلى ما يسمى بالقلق الذي يعاني منه الإنسان الغربي في هذا العصر، فلا بد والحالة هذه، من الالتقاء العقلاني بين الدين والتطور العلمي والتكنولوجي لتخفيف حدة التوتر والانفصام .
إن من أبرز الوظائف التي يؤديها الدين للفرد والجماعة تحقيق الاستقرار النفسى، فحينما يصاب الأفراد بالتمزق النفسى والصراعات الداخلية يحقق لهم الدين توازناً نفسياً عن طريق ما يسوقه من علاج نفسي ، وتوجيه إلهي ، لقول الله تعإلى }: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ ۚ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا ۗ وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32) ){ الزخرف ، 32) ، ففي حمى الدين تخف وطأة الحياة ، وتهون أمور الدنيا، وتصبح هذه المظاهر أمراً ثانوياً وبعيداً عن المألوف .
ويؤدي الشعور الدينى إلى الإحساس بالسعادة والرضا والقناعة والإيمان بالقضاء والقدر خيره وشره ، الذي يعين الفرد على مواجهة الضغوط ، ويمنح الثقة والقوة لمواجهة التحديات والأزمات التي تعترضه في مجرى حياته ، فيكون الملاذ وقت الشدة ، الذي يشعره بالأمان وعدم الخوف والتشاؤم ، لليقين بأن الله – تعإلى – يتدخل في الأحداث المهمة من أجل الأفضل دائماً ، الذي يتحقق للفرد من خلال : الدعاء ، والصلاة ، والشكر مما يوفر له أسمى صور الـدعم والطمأنينة،إلى أنه مع هذا الدعم تتناقض مشاعر الخوف والقلق، وخاصة قلق المستقبل، فيطمئن الفرد على مصيره المستقبلي ؛ الأمـر الذي يسهم في تحقيق السـواء ، لاعتباره بعداً أساسياً للشخصـية السوية . إن للدين وظائف وآثاراً نفسية واجتماعية على الفرد والمجتمع ، حيث يزود الفرد بنسق من القيم والمبادئ والمعايير والمحكات الاجتماعية التي توفر له التكيف مع من حوله ، ويزوده برؤية عالم آخر غير محسوس فيه الخلاص ، تشعره بالاستقرار النفسى ؛ لأنه بمثابة الإطار المرجعي المعياري الذي يلجأ اليه الفرد في سعيه لكل ما قد يواجهه من مختلف صور الصراع. والله وليّ التوفيق