لسنا وحدنا على الكرة الأرضية، ولذلك فلا بد أن نجد أنفسنا في إطار بشري، قُدّر عليه أن يعيش سنَّة التدافع، وما يقع من حولنا، يفرض علينا أمرين: البناء التنموي، والوقاية الأمنية، وكلٌّ منهما مهم للغاية للحياة البشرية، وقول الخالق -عز وجل-: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}، يحدد مباشرة ترابط الجانبين، وعدم انفصال أحدهما عن الآخر، فهنا تقدم الأمن الغذائي على الأمن العام، وهناك في سورة تبارك أخذ كل منهما مكان الآخر؛ فقال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُم مِّن دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَل لَّجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21)}، ولذا فإن الدولة المتوازنة تسعى لتأمين شعبها فيهما سويا، دون أن يطغى أحدهما على الآخر.
إن أي دولة إذا توجهت إلى الجانب التنموي -فقط- بكل أشكاله؛ الغذاء، والصحة، والتعليم، والإسكان، وفرص العمل … إلخ، فإنها قد تفقد استقرار هذا الجانب بالكلية لو فرطت في سبل تحقيق أمنها وأمن رعيتها، وحين تتوجه إلى الجانب الأمني فحسب، فإنها تمهد لتقهقر شامل في شتى الميادين، وفي النهاية سوف تفقد أمنها أيضا.
وفي الوقت ذاته، ينبغي للمؤسسات غير العسكرية أو الأمنية أن تلتفت إلى تطوير أدائها، ومواكبة العصر في آخر مستجداته؛ لتقديم خدمة أفضل باستمرار، والرقي بالمنتج، وتسهيل الإجراءات، ونزع فتيل الاحتقانات في دائرتها لموظفيها والمستفيدين من خدماتها، فإنها إذا فعلت فإنها تسهم في الأمن إسهاما رائعا، وغير مباشر مع المؤسسات الأمنية ذاتها.
الأمن مسؤولية كل فرد في المجتمع، على ألا يتحول إلى هاجس يسيطر على مؤسسة غير أمنية، ولا حتى على موظف فيها، وهو يعمل على حفظ ثغر من ثغور وطنه التنموية، فإن زيادة التوجس أو التوتر من أي أمر، سيشل قدراته، ويجعله قابعا في القديم من أفكاره، ولذلك سيفقد الوطن التألق الوضيء الذي يزيده بهاء، ويجدد شموسه، وينشر أقماره، وفي المقابل إذا افترضنا أن انشغلت المؤسسة الأمنية بالعملية التنموية ذات الصفة الخدمية فإنها ستفقد قدرتها على أداء مهمتها الخاصة بها كما ينتظر منها.
وما أجمل بلادنا، وهي تزاوج بين الجناحين، تزاوجا يجعل من كل منهما يعيش همَّ الآخر، ويسعى لبلوغ أهدافه السامية، دون أن يخل أحدهما بشأنه الخاص، ولا ينشغل بالآخر عن أداء واجبه؛ من أجل حصول التكامل المأمول، الذي لا يصلح إلا أن يكون دائما مستمرا، وإلا فسوف تحدث ثغرة ما، يدخل منها المتربصون، الذين يجيدون التسلق على سلالم التمظهر، وادعاء المواطنة الحقة، والشكاوى الكيدية، والوشايات، والاستعداء الظالم، واستغلال ما يجدُّ على مختلف الساحات لينثروا أحقادهم، ظانين أنهم -بذلك- سيحققون مشتهياتهم، ومطامحهم، وما دروا أن الحكمة التي منحها الله تعالى لأولياء الأمور في إدارة الأزمات التي مرّت بها البلاد عدة مرات؛ بسبب كونها تطل على عدد كبير من الدول والمنافذ البرية والبحرية، مكنتهم من تجاوز هذا الطنين، وتطويق الأزمة، والانطلاق مجددا في ضروب التنمية المختلفة.