يشعر بعض الناس أنهم معتمدون بدرجة كبيرة على ما يقوله ويفعله الآخرون، وتنتابهم مشاعر بالضيق عندما لا يحصلون على الاعتراف والتأكيد من المحيطين بهم. إنهم يشعرون وكأنهم في سجن من التعلق العاطفي بالآخرين ولا يستطيعون فكاكاً الأمر الذي يعذبهم ويجعلهم عصبيين وعدائيين في بعض الأحيان، كمقاومة لا شعورية ضد هذا التعلق الذي لا يستطيعون منه فكاكاً.
تعذب مثل هذه المشاعر هؤلاء، ويرغبون أكثر بالاعتماد على أنفسهم والاستقلالية. ومع ذلك فهؤلاء الأشخاص يجدون صعوبة ويخافون من الاستقلالية، والفقدان والعزلة والنبذ والرفض. إنهم عاجزون عن رؤية نقاط قوتهم ويحتاجون بالتالي إلى توكيد هذه النقاط من القوة. أي أنهم يحتاجون إلى التعزيز من الخارج. وهذا الأمر يدفعهم في كثير من الأحيان إلى السماح للآخرين بتجاوز الحدود معهم وكأنه الثمن الذي يضطرون لدفعه مقابل هذه الحاجة إلى التعلق.
الاعتماد على الآخرين وحاجتنا إليهم أمر طبيعي، ولا يوجد إنسان مستقل تماماً المحيط. ومن يعتقد أنه يستطيع أن يكون مستقلاً تماماً، فهو واهم. فالآخرون يشبعون بعض احتياجاتنا للاعتراف والتقدير. وجزء من احترامنا لأنفسنا وصورتنا عن أنفسنا نستمدها منهم. غير إن السؤال الذي يطرح نفسه، إلى أي مدى نحن متعلقون بالآخرين بآرائهم ومزاجهم ومشاعرهم.
ما مدى تأثير تصرفات الآخرين ومشاعرهم عليك وعلى إحساسك بالراحة والرضا؟
يمكن للشخص الذي يجيب بنعم عن الأسئلة الآتية أن يقدر درجة اعتماديته وتعلقه بالآخرين:
أنت بحاجة إلى الاهتمام الدائم والتقدير وإعجاب من الآخرين، وإذا لك تحصل على ذلك فإنك تشعر بالسوء.
وكلما ازداد عدد النقاط التي تجيب عنها بنعم تكون أكثر تعلقاً.
والسؤال الذي ينبغي أن تطرحه على نفسك إلى أي مدى يعيقك هذا التعلق العاطفي، وما السبب الكامن خلف ذلك؟
التعلق العاطفي هو حياة في سجن الحاجة
الأشخاص المتعلقون عاطفياً يعيشون في سجن المشاعر السيئة، لا يستطيعون الفكاك منها قوامها الخوف، الأرق، التوقع وخيبة الأمل وهي مشاعر تأسر الإنسان في قفص وتبقيه تحت السيطرة دون فكاك، أما المشاعر الإيجابية فلا يمكن أن تجد طريقها لأن الشخص مأسور في سجن مشاعره السلبية.
وربما يكون السبب الكامن خلف ذلك هو النقص في الحاجات.
رباعية سجن الحاجات
وهذه الرباعية تجعل الإنسان أسير سجن الحاجات وتدفعه إلى التشبث ببعض الناس، لكبح هذه المشاعر السلبية، وإبقائها بعيدة عن ساحة الوعي.
إلا أن المفارقة في ذلك أن الأشخاص الذين يشعرون أنه عليهم تحقيق توقعات الشخص المتعلق باستمرار يشعرون أنفسهم بأنهم محاصرون ومحملون فوق طاقتهم.
التعلق العاطفي يعزلك عن الآخرين
إنه نوع من التناقض. كلما قام الفرد بعمل أشياء أكثر للآخرين، قل ما يفعله الآخرون من أجله. فالمرء ينحت الصخر من أجل شريك حياته، يتخلى عن كل اهتماماته- في سبيل شريكه ليس لشيء، وإنما ليكون فقط معه- وما الذي يحصل عليه بالمقابل؟
ما ينجم عن ذلك هو أن يشعر الناس دون وعي أن هذا الشخص بحاجة لهم وأنه يعتمد عليهم ومتعلق بهم، وذلك ليس في سبيل راحتهم وإسعادهم وإنما لتأكيد نفسه، وللحصول على الاعتراف الذي لا يستطيع منحه لنفسه. بالمقابل يشعر الآخرون بالخداع وأن العلاقة مزعجة ومنهكة لهم وتستنزف طاقتهم بطريقة أو بأخرى ويشعرون بضغط الالتزام تجاه الآخر. وهذا الشعور بالالتزام يقوض أي مشاعر، ويقضي على أي شغف في مهده.
فإذا أراد الإنسان أن يشعر نظيره الآخر بالراحة معه ويقرر بحرية التواصل وقضاء الوقت والاهتمام به فعليه الآتي:
إن التحكم بالآخر والغيرة والتوقعات المفرطة ليست هي بالتأكيد الحل المناسب لهذا الغرض. فهذا السلوك يخنق الآخر ويقيد حريته.
على الإنسان ألا يربط سعادته الشخصية بسعادة الآخرين. فمن يمنحك السعادة يمكنه أين يمنحك التعاسة أيضاً. فإذا كنت متعلقاً به فأنت تسمح للآخر أن يفعل بك ما يريد. لا توجد علاقة يمكن أن تمنحك السلام الذي لم تنشئه في نفسك.
ومن ناحية أخرى يمكن للمرء أن يحقق رغباته وحاجاته دون أن يؤذي نفسه أو يكون عبئاً على الآخرين. وهناك طرق مختلفة يمكن للمرء فيها أن يكون مستقلاً عاطفياً:
وأول هذه الطرق هي:
فعندما يصاب الإنسان بالإدمان العاطفي، فقد تظل أفكاره مشغولة بالآخر. فما قد يفعله أو لا يفعله، ما الذي يقوله وماذا يقول أو لا يقول، يصبح ذا أهمية مفرطة بالنسبة للشخص ويؤثر على مشاعره وأفعاله. وهذا الانشغال يجعل الإنسان يسلم السلطة عن نفسه وحياته للآخرين. إنه تابع لهم وهو مستسلم وتفترسه الأفكار التي تدور حول الآخر، ولا تجعله يفكر بنفسه.
ومن هنا فإن الخطوة الأولى نحو التغيير هي الوعي بهذا الأمر؛ فعندما يدرك الإنسان أنه قد تتخلى عن السلطة على نفسك، فسيتمكن عندئذ من استعادتها. لهذا على المرء أن يكون مدركاً وواعياً لمشاعره وأفكاره وأفعاله فيما يتعلق بالشخص الآخر.
وهنا على الإنسان أن يطرح على نفسه الأسئلة الآتية:
على الإنسان مراقبة وضعه ورصد أفكاره وإن كان يجد صعوبة في ذلك فعليه كتابتها. ومن المهم في هذ المرحلة هو أن الأمر لن يكون سهلاً. فمواجهة الحقيقة أمر صعب ومؤلم كثيراً إلا أن التغيير ل يحصل إلا من خلال المواجهة، وعدم التهرب من الحقيقة وتحمل ألمها في البداية.
كل ما يحدث له سبب والعثور على السبب مهم من أجل أن يجد الإنسان مكمن استقلاليته. لقد سبق وتم توضيح كيف يمكن أن تنشأ التبعية العاطفية.
فما هو سبب التعلق العاطفي الخاص بك؟
هل أنت خائف من الوحدة؟ أم لديك خوف عميق من الخسارة والفقدان؟ من أين يأتي هذا الإحساس؟ هل مشاعرك مزيج من كل ذلك؟
وبعد أن يتم تحديد ذلك يفترض أن يتم النظر في الكيفية التي يفترض لهذه المعرفة أن تساعد فيها؟
النقطة المهمة هي توفر المعرفة حول الشخص ووضعه. فعندما يصبح المرء معتمدًا على شيء ما أو شخص ما، فهذا لا يعني على الإطلاق أن الشخص ضعيف وإنما قد يرجع الأمر إلى سلوك مكتسب. فمن خلال التعلق، يحاول الشخص التعويض عن الخبرات السابقة وتجنب الألم المتجدد أو نسيان تلك الخبرات. فقد تعلم هذا الشخص على أن يحمي نفسه عاطفيا من خلال سلوكه (الشكوى، التشبث، الإساءة …). ولكن هذا السلوك هو نفسه ما يجعل الآخرين يبتعدون عن الشخص الذي يعاني من التعلق.
فكيف يمكن للمرء معرفة سبب تعلقه؟
على المرء أن يطرح على نفسه الأسئلة الآتية
في كل مرة يشعر فيها بأحد المشاعر، عليه أن يجيب عن الأسئلة بشكل كتابي. فهذه هي الطريقة التي يكتشف بها أسباب تعلقه العاطفي ونفسك.
وليس بالأمر السهل عمل التوعية يتمكن الإنسان دائمًا من مراقبة نفسه جيدًا، فالعديد من العمليات تجري في اللاوعي. لهذا على المرء ألا يستسلم؛ فالكفاح من أجل الاستقلالية يستحق، وهذه الجهود في تحقيق الوعي بالنفس، هي التي تولد الأساس للتغيير العميق.
فهم المشاعر ومعرفة مصدرها لا يعني قبول هذه المشاعر كما لا يعني التعامل مع هذه المشاعر والتحكم بها. بل أن الأمر يحتاج إلى خطوات أخرى في سبيل ذلك. ومن هذه الخطوات هي تقبل المشاعر.
لهذا فإذا كان المرء يخشى من الإحساس بالخوف من أن يكون وحيدًا أو من أن تسبب له مشاعر الوحدة التوتر أو المشاعر السيئة في المستقبل، فعليه التفكير فيما إذا كان يمكنه قبول الشعور.
على المرء أن يفكر أن ما يشعر به أمر طبيعي، أن يقول لنفسه، أنا بخير، لن أموت من جراء هذه المشاعر. وحتى لو شعرت بهذه الطريقة فإن الأمر عادي.
الشعور بهذه الأمور يتطلب عدم الرفض، وإنما الاحتضان والقبول، وكأن المرء يعانق طفلاً صغيراً. مثال ذلك، إذا كان شريكك يريد أن يلتقي بأصدقاء له وشعرت بالخوف من أنه لا يريد أن يكون معك أنت وفكرت بأنك إنسان غير جيد أو غير مرغوب بما فيه الكفاية؟ فلا تغضب من هذه المشاعر بل تقبلها واحتضن هذا الشعور الطفولي فيك، ولا تتوتر، أو تنغمس في نفسك، أو تشعر بالغضب كالعادة، وبدلاً من ذلك أخبر شريكك: “حسنًا. أتمنى لك الكثير من المرح! ” حتى لو كنت لا تحب ذلك، جربه!
ولا يتعلق الأمر هنا بجعل الشخص يشعر بالأمان والراحة على الفور. إنه عمل يتقدم باستمرار ويحتاج وقت، وهذا يبدأ بالوعي والتفهم للشخص نفسه ويؤدي إلى قبوله لمشاعره في خطوات صغيرة في استقلاله الجديد.
طريق الاستقلالية يتطلب السير بخطوات صغيرة، خطوة فخطوة، فالخطوات الصغيرة هي ما يقود إلى تغيير كبير في الحياة. ومع كل خطوة يقوم بها المرء سيشعر بمزيد من الراحة والاسترخاء. وشيئًا فشيئًا، سوف يعتاد على تفكيره وأفعاله وحياته الجديدة. ولكن يجب الانتباه من التسرع والضغط على النفس، وإلا فسوف يحصل تثبط للدافعية وينتكس الإنسان. الخطوات الصغيرة كافية تمامًا، وسيكون لها تأثير هائل. أما القفزات الكبيرة فستأتي من تلقاء نفسها.
من البديهي أنه إذا كان المرء يريد التحرر من التبعية العاطفية، فإن الاستقلالية ضرورية. فمن خلالها يمكن استعادة المزيد من الثقة في النفس وتقدير الذات. فعندما يتابع الإنسان رغباته وأحلامه وأهدافه في حياته، فسوف يشعر أنك أقوى وأكثر أمانًا وبالتالي يكون أكثر استقلالية عن الآخرين. وعندما يتحقق ذلك سينظر الآخرون للإنسان بجدية أكبر وتكون علاقتهم به أمتن. فمن يأخذ نفسه وحياته على محمل الجد فسوف يأخذه الآخرون على محمل الجد.
فكيف يمكن للمرء العثور على استقلاليته؟
ومن خلال هذه الإجراءات يقوم المرء بتحويل إدراكه وتركيزه، ويحرر نفسه من الأشياء الأخرى ويتخلص تدريجياً من التبعية. وحتى لو كان الأمر سيئًا و “غير صحيح” في البداية، المهم أن يفعل الإنسان ذلك.
الشعور بالوحدة أمر مربك لكثير من الناس ويسبب لهم الخوف، ومن ثم فهم يعملون على أن يمنعوا حصول هذا الموقف قدر الإمكان. الشعور بالوحدة يمكن أن يسحب المرء إلى أسفل بشكل رهيب، ويجعله كمن يسقط في حفرة عميقة.
الشعور بالوحدة ليس بالضرورة أن يكون شعوراً سيئا، إذا يمكن تحويله إلى موقف مفيد ومثمر. فهناك فرق كبير بين عدم الشعور بالوحدة والامتلاء بالوحدة. يمكن استثمار الوحدة في أمور كثيرة ممتعة، والانشغال بأمور مفيدة. واستغلال الوقت بشكل مخطط وهادف.
إن تحمل الوحدة هي خطوة مهمة جدا نحو الحرية والاستقلالية.
عندما يتحكم المرء في الآخرين، فهو لا يتمتع بأي شيء لا بالحرية ولا بالاستقلالية. فالسيطرة تقيد كل الأشخاص في حريتهم واستقلالهم.
إن توقع الإنسان أن يتصرف الآخرون بطريقة معينة نحوه هو سيطرة محضة.
مثال ذلك: لقد لاحظت أن صديقك قد قرأ رسالتك وهو متصل بالإنترنت حاليًا، ولكنه لم يجبك؟ أخبرك صديق من أصدقاءك أنه سيرد عليك ولكنك تنتظر وتنظر دون رد، فتزداد حالتك المزاجية سوءًا. فتقول ما لهؤلاء البشر؟ أنت تنزعج من أنك وصلت من السفر ولم يتصل بك قريب لك، ويدعوك للقائه. لماذا قام فلان بدعوة فلان ولم يدعني؟
وهذا الموقف المألوف الذي قد يتكرر في حياتنا اليومية قد يؤدي إلى الكثير من سوء الفهم والصراع مع الآخرين.
لا عجب في ذلك، فالعتاب واللوم يجعل الآخرين يشعرون بعدم الحرية وأن يكونوا أنفسهم وأن يتصرفوا بحرية. إن هذه التصرفات تجعل الآخرين مشغولين دائمًا بالتصرف وفقًا لتوقعات الآخر، وعدم قول أو فعل أي شيء خاطئ، الأمر الذي يولد الضغط – على كلا الجانبين. أنت تتوقع حدوث شيء ما وتثبّت نفسك عليه، والآخر يجد نفسه تحت ضغط التصرف وفق توقعاتك الأمر الذي يضع الأطراف تحت ضغط هائل.
ويكمن الحل هنا في أن يتحكم الإنسان في حاجته للسيطرة والتحكم، أي أن الشيء الوحيد الذي يجب التحكم فيه هو الحاجة للسيطرة.
فكيف يمكن عمل هذا؟
قطع الأفكار
فإذا تمكن المرء من تحويل انتباهه إلى مواضيع أخرى بطرق مختلفة وأصبح أكثر استرخاءً، فسيشعر بسرعة كيف يتحكم في رغبة التحكم القوية واختفائها بالتدريج.
————————————————–
بقلم أ.د. سامر جميل رضوان