الصلاة الكاملة المبنية على الخشوع والخضوع تنير القلب، وتُهَذِّب النفس، وتُعَلِّم العبد آداب العبودية، وواجبات الربوبية لله عز وجل بما تغرسه في قلب صاحبها من جلال الله وعظمته، وإنها لتُحَلِّي المرء وتُجَمِّله بمكارم الأخلاق كالصِّدْق والأمانة والقناعة والوفاء والحِلْم والتَّواضُع والعَدْل والإحْسَان، وتسمو بصاحبها وتُوجِّهه إلى الله وحده، فتكثر مراقبته وخشيته من الله عز وجل، حتى تعلو بذلك هِمَّته، وتزكو نفسه، فيبتعد ويسمو عن الكذب والخيانة والشرِّ والغدر والغضب والكِبْر، ويترفَّع عن البغي والعدوان والدناءة والفسوق والعصيان، وهي الخلال التي تنشدها مجتمعات المسلمين اليوم لكن قلما تجد من يتحلى بها!
الأستاذ الدكتور عبد اللطيف محمد عامر أستاذ الشريعة الإسلامية جامعة الزقازيق يؤكد ضرورة أن يبقى في النفس والروح، بل والبدن أيضًا شيء من المقاومة والتَّحصين تنهاه عن الفحشاء والمنكر بعد الصلاة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ستنهاه صلاته يومًا مًا”.
وكي يتحقَّق قول الله تبارك وتعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)(العنكبوت: 45)، فلا بد للمسلم في هذا السموّ الخلقي أن يستمد التوفيق والعون من الله تعالى:”واهدني لأحسن الْأَخْلَاق، لَا يهدي لأحسنها إِلَّا أَنْت، واصرف عنِّي سيئها، لَا يصرف عني سيئها إِلَّا أَنْت”.
ويشير د. عامر إلى أن المسلم الذي يتربَّى في المسجد وينصهر بالصلاة، ويمتلئ قلبه بالتوحيد الخالص هو رجل العقيدة الصادقة، والأخلاق الطاهرة، وهو الرجل الذي يتحرك في مجتمعه؛ ليتقن ما يُسْنَد إليه من عمل، وينشر خيره ومعروفه حيثما تحرك، ويقابل جهل الجاهلين عليه بالحلم، ويعطي الناس كل الناس بلا مقابل إلا ابتغاء مرضاة الله عز وجل(لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً ولا شُكُورًا)(الإنسان: 9).
وهؤلاء هم بناة النَّهْضات، وصنَّاع الحضارات.. بهم تُرْفَع الرايات وترتقي المجتمعات، وتنهض الأمم، وإن مجتمعنا الإسلامي لأحوج ما يكون إلى هذه النوعية من الرجال الأطهار الأبرار التي لا تتخرَّج إلا في المساجد، ولا نقول بذلك إلا بعد ما أجمع القاصي والدَّاني على أن الأزمة التي تعاني منها أمتنا الإسلامية أزمة أَخْلاق، وأزمة ضمير، وأزمة رقابة، …،ويجمعها أزمة العقيدة الصحيحة التي تكبح جماح الشرِّ والرذائل وتنبعث منها عظيم الأخلاق، وكمال الفضائل، والقدرة على الترفُّع عن الصغائر، وأن يكون إلفًا مألوفًا للناس؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:”لا خير فيمن لا يَأْلَف ولا يُؤْلَف”.
إن الصلاة توقظ وازع الدِّين في أعماق النفوس، فيكون حاكمًا على أعمال الإنسان موجهًا له وجهة الخير دائمًا، بل هي التي تصقل النفس وتربِّيها بتعديل ملكاتها وتهذيب غرائزها الفاسدة؛ حتى لكأن الطبيعة الإنسانية قد تحوَّلت إلى طبيعة ثانية سامية، كما يشير إلى ذلك قول الله تعالى: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)(المعارج: 19 -23). وما ذلك إلا لأن الصلاة قد سَمَت بالنفس عن التأثر والخضوع لما يخضع له سائر الناس من الضعف في حالتي الشر والخير، بل حوَّلت الجزع توقرًا وثباتًا، وقلبت المنع إلى جودٍ وسخاءٍ..
كما يفعل الصوم أيضًا والحج في تهذيب وضبط كل الشهوات حتى الحلال منها.
فضل صلاة الجماعة:
ويسرد د. عبد اللطيف عامر النصوص الدالة على فضل صلاة الجماعة فيقول:
عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه -أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«صلاة الجماعة تفضل صلاة الفَذِّ بسبعٍ وعشرين درجة»، ويبين لنا النبي صلى الله عليه وسلم سرّ هذا التفضيل فيقول: «صلاة الجميع تزيد على صلاته في بيته، وصلاته في سوقه، خمسًا وعشرين درجة؛ فإن أحدكم إذا توضأ فأحسن الوضوء، وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة، لم يَخْطُ خطوة إلا رفعه الله بها درجة، وحطَّ عنه خطيئة، حتى يدخل المسجد، وإذا دخل المسجد كان في صلاة ما كانت تحبسه، وتصلي الملائكة عليه ما دام في مجلسه الذي يُصَلِّي فيه: اللهمَّ اغْفِر له اللهُمَّ ارْحَمْه، ما لم يُؤْذِ فيه، ما لم يُحْدِث فيه»، وفي رواية: «ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة».
إن صلاة الجماعة تجمع بين المتباعدين، وتذيب العداوات، وتمحو الخصومات، وتُؤلِّف بين القلوب، وتجعل بين المسلمين المودَّة والرحمة، وتجمع بين الأطهار المتطهرين: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)(التوبة: 108).
صلاة الجماعة تجعلنا يتفقد بعضنا بعضًا:
ومن فوائد الصلاة في الجماعة ـ كما يقول د. عامر ـ أنها تجمع بين أهل المكان أو الحي في المسجد، في تفقَّد بعضهم بعضًا، فيُعْرَف المتَخَلِّف وسبب تخلُّفه، فإن كان لأمر عارضٍ رأيته في الصلاة التالية، وإن استمر في تخلُّفِه سألت عنه، فإن كان كسلاً وتهاونًا، فلا يتركه فريسة للشيطان يستحوذ عليه وينفرد به، كما ينفرد الذئب بالقاصية من الغنم، بل يُزَار ويُعَالج أمره برفقٍ ولينٍ وحكمة؛ حتى يرد إلى بيت الله مع عباد الله تعالى.. وإن كان غيابه لمرض أقعده، عاده وتعرَّف على شأنه،فإن كان في حاجة وشدة، سعى له في قضاء حاجته، بل ربما مات فتواسي أهله.. إننا بذلك نُحقِّق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “مثل المؤمنين في توادِّهِم وتراحُمِهِم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسَّهَرِ والحُمَّى”.
ويضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى حين يسأل عن رجل أو امرأة سوداء عملها نظافة المسجد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أسوَدَ، أو امرأة سوداء، كان يَقُمُّ المسجد، فمات، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه، فقالوا: مات. قال: “أفلا كنتم آذنتموني به؟ دلُّوني على قبره – أو قال قبرها – فأتى قبره، فصلَّى عليه”.
بل هناك فائدة أخرى عظمى رغم أن الأصل في العبادات التعبُّد دون النظر إلى الأسرار والحكم والمقاصد.. هذه الفائدة هي معرفة جميع أهل الحي ببعضهم ومقامات وخبرات بعضهم، بل ودرجات هذه الخبرة مثل: “أقرؤكم لكتاب الله أفقهكم في دين الله”، ومثل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليليني منكم أولو الأحلام والنُّهَى، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم”.
صلاة الجماعة تزوِّدُنا بعوامل النجاح:
ويضيف د. عامر: إن صلاة الجماعة تزوِّد المسلم بأعظم عوامل النجاح، وتدرِّبه على أساسيات العمل في فريق، والذي هو أساس النهوض بالأمة والرقي باقتصادها، وأهمها:
ـ الوحدة والمساواة: ففي الصلاة يتجلَّى العدل والمساواة، فإذا نادى المؤذِّن حيّ على الصلاة.. حيّ على الفلاح، فإنما يدعو كل من يسمعه ممن تجب عليهم الصلاة، فيهم الغني والفقير، والكبير والصغير، والأمير والمأمور، فإذا اجتمعوا وقفوا صفًّا واحدًا لا تمييز ولا تفريق، وفي الصَّفِّ الواحد في المسجد تذوب الفوارق وتنمحي الطبقات، ويتم التطبيق العملي لمبدأ المساواة الذي يتشدَّق به دعاة المدنية والحضارة، وهم فيه فقراء..
ـ التدريب على الصَّفِّ والنِّظام: فالصلاة تُدرِّب المسلم على الوحدة والصف والنظام، حيث يقف خمس مرات في صفٍّ متراص، مناجيًا لربٍّ واحد، ومتوجهًا إلى قبلة واحدة، ويتحرك حركة واحدة، تابعًا لإمام واحد لا يتعدَّد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بتسوية الصفوف وإتمامها فيقول: «سَوُّوا صفوفكم فإن تسوية الصف من تمام الصلاة».
إن تماسّ الأيدي والأبدان يتبعها تماسّ القلوب، وحين تستوي الصفوف تستوي باستوائها النفوس والقلوب، فعن أبي مسعود رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: “استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم”، وقال صلى الله عليه وسلم: “استووا تَسْتَوِ قلوبكم، وتماسّوا تراحموا”.
ـ التدريب على السمع والطاعة في المعروف: فالصلاة تدرب المسلم عمليًّا على السمع والطاعة في المعروف، وعلى أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق؛ وذلك أنه يتبع الإمام في كل حركاته، فلا يدخل في الصلاة إلا إذا كبَّر الإمام تكبيرة الإحرام، قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ، فَإِذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا، وَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا، وَإِذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا، وَإِذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، فَقُولُوا: رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ”.
ويوجه د. عامر وصيته للمسلمين في كل مكان فيقول: اقدروا الصلاة حقَّ قَدْرها، واحرصوا على المبادرة إليها حين يُنَادَى عليها، وكونوا مثال الإحسان في الصلاة، واستكمالها بخشوع وتدبر واطمئنان وتفكر، وأن تخرج من صلاتك وقد تذوَّقت حلاوة العبادة وتأثرت بمشاعر الطاعة، واستنرت بنور الله عز وجل الذي يتجلَّى به على من وصلوا نفوسهم بجلال معرفته. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى الصَّلَاةَ لِوَقْتِهَا، وَأَسْبَغَ لَهَا وُضُوءَهَا، وَأَتَمَّ لَهَا قِيَامَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا خَرَجَتْ وَهِيَ بَيْضَاءُ مُسْفِرَةٌ، تَقُولُ: حَفِظَكَ اللَّهُ كَمَا حَفِظْتَنِي، وَمَنْ صَلَّى الصَّلَاةَ لِغَيْرِ وَقْتِهَا فَلَمْ يُسْبِغْ لَهَا وُضُوءَهَا، وَلَمْ يُتِمَّ لَهَا خُشُوعَهَا وَلَا رُكُوعَهَا وَلَا سُجُودَهَا خَرَجَتْ وَهِيَ سَوْدَاءُ مُظْلِمَةٌ، تَقُولُ: ضَيَّعَكَ اللَّهِ كَمَا ضَيَّعْتَنِي، حَتَّى إِذَا كَانَتْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ لُفَّتْ كَمَا يُلَفُّ الثَّوْبُ الْخَلَقُ، ثُمَّ ضُرِبَ بِهَا وَجْهُهُ».