التربية ليست وراثة، وإنما هي علم مكتسب، ونهج ينبغي تعلمه وترسمه، لا سيما في عصر تعقدت مسالكه، وكثرت موارد التأثير فيه على أولادنا، حتى لم نعد وحدنا الذين نقوم بتربيتهم، وتنشئتهم، بل يشاركنا الإعلام بكل صنوفه، والشارع والمدرسة، ومجموعة القرناء.
ومن خلال تتبع الواقع، وجدت أن شكوى الآباء من الأولاد أصبحت غالبة، وهي ـ في مجملها ـ تدلُّ على انفصام حقيقي بين الجيلين، أدى إلى فشل متعدد الوجوه، في مواجهة الحياة، أو في التحصيل الدراسي، أو في العلاقات الاجتماعية.
وفي نظري أن السبب الأكبر في ذلك يعود إلى فشل التواصل بين الآباء والأولاد، فبعضهم يجري الحوار من طرف واحد دون تجاوب الطرف الآخر إنه يتكلم أمامهم وليس معهم من باب التسلط، وهو في الحقيقة ليس حواراً لغياب عنصر التبادل في التحاور.
ولذلك فإننا لا يمكن أن نعود باللوم إلى الأولاد، فهم في مدارج الصبا، وسلالم المراهقة، وفي مراحل التعلم، ولكن لنا أن نقول: إن الآباء والأمهات هم الذين يجب أن يتحمّلوا هذه المسؤولية كاملة، ويستعدوا لها تعلماً وتدريباً.
إن الأساليب التي كانت متبعة في الجيل السابق، لا يمكن أن تستنسخ بمجموعها، وبكل أبعادها؛ لأنها كانت في زمن ومؤثرات وثقافة تختلف عما نحن فيه الآن، فضلاً عن أنها لم تكن علمية، ولا صحيحة.
إن نشء اليوم يعيش طفرة نفسية، وطفرة ثقافية، وانفتاحاً واسعاً، والجواذب التي تحيط به من كل جانب أخطر من أن نستهين بها، ونحن نقوم بأصعب مهمة في الوجود البشري، إنها.. (التربية).
لقد كانت التربية السلبية هي الأكثر انتشاراً في العقود المتأخرة، ليس في بلادنا فحسب، بل في معظم مجتمعاتنا العربية والإسلامية، بينما تؤكد النصوص الشرعية، والتربية الحديثة على أنها تعطي نتائج سلبية، وأن التربية الإيجابية أبقى أثراً، وأسلم عاقبة.
ومن أبرز الوسائل السلبية؛ الضرب، والسباب، واللوم.. وكل منها وسيلة سهلة الاستخدام، سيئة الأثر، مهما أعطت من أثر سريع، يظهر أنه إيجابي، ما عدا الضرب غير المبرح، بشروط كثيرة، تكاد تجعله ممنوعاً، وليس هذا البحث في شأنه.
فأما في الضرب فعن عائشة «رضي الله عنها» قالت: “ما ضرب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) امرأة له ولا خادماً قط، ولا ضرب بيده شيئاً قط إلا في سبيل الله أو تنتهك حرمات الله فينتقم لله” .
وأما في السباب فقد قال الرسول (صلى الله عليه وسلم): “ليس المؤمن بالطعان، ولا باللعان، ولا بالفاحش، ولا بالبذيء”.
وأما في اللوم فعن أنس قال: “خدمت النبي (صلى الله عليه وسلم) عشر سنين بالمدينة، وأنا غلام، ليس كل أمري كما يشتهي صاحبي أن أكون عليه؛ ما قال لي فيها: أفٍّ قط وما قال لي: لمَ فعلت هذا؟ أو ألا فعلت هذا!”.
ولنا أن نرى التربية الإيجابية التي برئت من كل سلبية في حديث عمرو بن أبي سلمة قال: كنت غلاماً في حجر النبي (صلى الله عليه وسلم) وكانت يدي تطيش في الصحفة فقال لي: “يا غلام سمّ الله وكل بيمينك وكل مما يليك”.
هذه هي التربية الإيجابية، التي تركّز على السلوك الذي يجب أن يتعلمه ويتدرب عليه الطفل والمراهق، لا الانصباب على الخطأ ذاته؛ حتى تتحوّل العلاقة بين المربي والمتربي إلى علاقة تصيّد أخطاء، وخوف، وتوجّس، وخجل، وانطواء، وربما إلى عدوانية.