لا هوية محددة للثرثار، فقد يكون قريباً وصديقاً أو زميلاً أو عابر سبيل.
في حضرته، يجد الإنسان نفسه مرغماً على سماعه يحكي ويرغي وينطق لساعات كاشفاً عن أدق تفاصيل حياته، من دون أن يترك مجالاً للآخرين لإبداء رأيهم أو حتى الاعتذار عن السماع. هناك من يعتبر التحدث عن الذات عيباً كبيراً وعادةً سيئة، في حين يعتبره قسم آخر ميزة جيدة أو نوعاً من “فضفضة” الهموم؟
يحتاج كلُّ إنسان إلى التعبير عن أفكاره ومشاعره بشكل أو بآخر، فهذا أقل ما يمكن أن يفعله في إطار الحفاظ على العلاقات الاجتماعية الطبيعية واستمراريتها. نحتاج أحياناً إلى شخص نخبره همومنا ومشكلاتنا، نحكي له عن أحلامنا وأمنياتنا ورغباتنا ونكشف له أسرارنا، نحتاج إلى شخص نشعر بأنه يفهمنا ويستمع لنا من دون أن يملي علينا ما يجب فعله أو ينتقد أخطاءنا وأحلامنا ويسخر منها أو يصدر أحكامه علينا. باختصار، نحتاج إلى أن نروي قصة حياتنا إلى أشخاص يكونون قديرين وجديرين بالثقة التي نمنحها لهم.
التحدث عن الذات وإطلاع الآخرين على تفاصيل الحياة الشخصية وأسرارها، هو في الواقع محاولة من قبلنا للتعرف أكثر إلى ذاتنا، وإعادة تَرتيب أحداث تاريخنا لتتماشى مع ظروف الحاضر وإطار العلاقة المرسومة مع محدثنا. إنها باختصار، عملية ربط الأحداث في ما بينها لكي نفهم معناها، قبل أن ينجح هذا الآخر في فهمها.
أن تروي قصة حياتك لشخص آخر هو دليل رغبتك في رسم الشخصية التي تراها في نفسك في مخيلته. من خلال التحدث عن ذاتك تبتكر حقيقة جديدة قابلة للتفاعل، فتبدو كأنها تمدك بقدرة التحكم في وجودك في هذا العالم.
– كلام من دون معنى
أحياناً، نحب أن نخبر، وبالتفاصيل المملة، عما جرى بصرف النظر عن هوية الشخص الذي نحدثه، قد يكون قريباً لنا أو مجرد زميل أو عابر سبيل التقيناه صدفة في مكان ما. لكننا لا نكشف أسرارنا ولا نعبر عن حقيقة مشاعرنا لأي شخص كان، وإنما نختار من يوحي لنا بالثقة نشعر معه بالراحة والاطمئنان. في هذا الإطار، يشير المحلل النفسي “سافيريو توماسيلا” إلى أنّ دفة الاختيار غالباً ما تميل نحو أصحاب الوجوه المبتسمة والشخصية اللطيفة، وفي حال تعذر وجودهم، نتجه نحو الأفراد الذين كوّنوا فكرة سيئة عنا، لنوصل لهم صورتنا الجديدة التي رسمناها بأنفسنا.
نقوم أيضاً بانتقاء ما نريد أن نقوله لهذا الآخر، فالحوار عادة ما تتم برمجته وتوجيه بناء على رد فعل محدثنا وشخصيته، فإذا لاحظنا مثلاً تململه سوف نلجأ إلى إنهاء الحديث فوراً. يعتبر المحللون أن أغلبية الحوارات التي تجرى على الهاتف أو في الشارع، تطول وتمتد فتفرغ من فحواها القيّم، وقد تضر في العلاقة بين المتحاورين، لأنّ التواصل الحقيقي ينقطع بينهما فيعجز المستمع عن إبلاغ المتحدث بانزعاجه من كلامه الفارغ أو من احتكاره للكلام طيلة الوقت. تتميز العلاقات الناجحة بين الأصدقاء والزملاء بالمبادلة بالمثل، إذ يحصل تبادل أسرار ومشاركة بالخصوصيات.
يرى “جيرار أبفيلدورفير”، محلل ومعالج نفسي، أنّ الأسرار الشخصية لا يمكن إلا أن تكون متبادلة، لأنّ من يتقبلها لابد أن يقدم بدوره ما يوازيها أهمية. لكن المبالغة في التحدث عن الذات والاستعانة بالمخيلة، كي لا نقول الكذب، لإعطاء الحوار مزيداً من الأهمية، لا يشجع المستمع على مبادلة المتحدث الكلام ذاته. بل على العكس، سوف يتولد لديه شعور بأنه مرغم على كشف أسراره، في الوقت الذي ربما لا يرغب في فعل ذلك.
– التحدث هرباً من الذات
يعتبر البعض أنّ التحدث عن الذات أو الفضفضة وكشف الأسرار الدفينة هو فعل جيد، لا بل ميزة حسنة، في حين يرى قسم آخر الإفراط أو المبالغة في الكلام عن الذات بمثابة عيب كبير. وقد تسوء الأمور وتتحول إلى مشكلة في ما لو أثار كلامنا حفيظة المستمع لنا، أو تم فهمه خطأ أو قام أحدهم بتحوير الكلام الذي جاء على لساننا، حتى بات يشكل تهديداً لنا وإزعاجاً للمحيطين بنا، ما يحتم علينا تعلم كيفية التحدث بشكل مقتضب والحرص على عدم كشف كلّ الأوراق، وترك المجال للآخر لكي يعبر عن رأيه ويستعيد أنفاسه.
يقول فريديريك نيتشيه: “إنّ الإفراط في التحدث عن الذات قد يكون وسيلة للاختباء أو لإخفاء شيء ما”. وربما يؤشر أيضاً إلى الفراغ الفكري، إذ لا يجد الشخص ما يحدث به الآخر سوى تفاصيل حياته، أو قد يكون دليل قلة الثقة بالذات، لأنّ المبالغة في الكلام تعني حتماً قلة الثقة بالنفس. عندما يكون لدى الفرد قاعدة قوية من الثقة بالذات، ينعكس ذلك على علاقته بالآخرين، من خلال قدرته على اعتماد الصمت الإيجابي أو الصمت التأملي، فتتولد لديه رغبة في الاستماع لهم وتقبل آرائهم ومشاعرهم، وتخف في المقابل ثرثرته. لكن، الثقة المفرطة بالذات تأتي كتعويض عن شعور داخلي بقلة الثقة بالذات وعدم تقدير القيمة الذاتية.
هناك من يرى أنّ التحدث عن تفاصيل الحياة الشخصية ليس سوى محاولة لإثبات صدق النوايا والصراحة تجاه الآخرين. لكن، هذا التفسير لا يصح دائماً، إذ إنّ الإفصاح عن التجارب الشخصية والمغامرات الخاصة، غالباً ما يزعج الآخرين، فهو يؤشر إلى السعي إلى انتزاع اعتراف منهم والحصول على تعاطفهم. ولعل التحدث عن الذات ليس سوى علامة واضحة لحب الأنا، هذه الأنا التي تثير حفيظة الكثيرين. لا يمكن استخدام استراتيجية التحدث عن الذات كوسيلة لسحق الآخرين أو إثارة إهتمامهم أو السيطرة عليهم فقط. فالمشكلة تظهر عندما نبدأ في الإكثار من الكلام عن حياتنا والغوص في تفاصيلها لدرجة ننسى فيها أن نستمع بدورنا للشخص الآخر الذي نحدثه.
– الصراحة
كيف يمكن أن نتصرف عندما نجد أنفسنا أمام شخص لا يستطيع أن يكبح لسانه؟ الأمر في غاية البساطة، إعتماد الصراحة معه وإخباره بأنّ كلامه لا معنى له أو أنه يحتكر الحديث كلّه. في الإجمال، يساعد الوضوح والصراحة في توطيد العلاقات بين الناس، لكن في البداية قد يعطي نتيجة معاكسة تؤدي إلى انقطاع العلاقات أو حصول فتور. ردُّ الفعل هذه تؤكد وصول فحوى الرسالة إلى هذا الثرثار الذي لا يعرف متى يتوقف عن الكلام، وفهمه بأنه تخطى الحدود ومنبع الآخرين من التعبير بدورهمم عن أفكارهم.
– الكلام بسرك
في حال لاحظت أنك أكثرت الكلام، لا تنتظر/ تنتظري، رؤية علامات الاستياء في عيني مستمعك للسيطرة على فيض كلامك، بل سارع/ سارعي إلى التوقف قليلاً، والتأمل قبل الارتكان إلى صوتك الداخلي والاستمتاع بهذا الصمت الإيجابي. يجب أن تتقبل/ تتقبلي فكرة محاورة الآخرين والاستماع لهم من دون مقاطعتهم لطرح الأسئلة، وتفهم صمتهم أحياناً. احرص/ احرصي أيضاً على الحفاظ على حديقتك السرية وعدم البوح بكلِّ خفاياها فوراً، لاسيما إذا كانت حديقة حياتك العاطفية والزوجية. لا تتسرع/ تتسرعي في إطلاع الآخرين على مشكلاتك مع شريكك، فلا حاجة لك إلى فعل ذلك، لاسيما أنها مشكلات شخصية لا تهم سوى المعنيين بها. حاول/ حاولي أن تستمع/ تستمتعي إلى ذاتك، قبل أن تبحث/ تبحثي عن شخص آخر لتبوح/ لتبوحي له بأسرارك. تساعد فترات التأمل والعودة إلى الذات في حل الكثير من مشكلاتنا والتخلص من همومنا بمفردنا. حاول/ حاولي أن تسأل/ تسألي عما إذا كان كلامك يهدف إلى الحصول على معلومة ما أو إيصال رسالة ما، أم أنه مجرد كلام فارغ لا داعي له لأنه يزعج الآخرين. وبدلاً من التفتيش عن شخص يستمع إليك، يمكن اللجوء إلى القلم والورقة لتفريغ ما لديك من كلام، كما يمكن حالياً الاستعانة بشبكة الإنترنت وكتابة يومياتك في المدونات الشخصية المعروفة بـ”البلوغيرز”، التي يستطيع الكثيرون الوصول إليها وقراءتها.
|