مقدمــة:
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله منّ على الطائعين بمحبته ومعيته، ومنح العاصين ستره بكمال رحمته، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له: سبحانه سبحانه؛ هو عزّ كل ذليل، وهو قوة كل ضعيف، وهو غوث كل ملهوف، وهو ناصر كل مظلوم. لا يقبل سبحانه من العمل إلا ما كان لوجهه خالِصًا، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا وعظيمنا وشفيعنا وقائدنا وسائدنا ورائدنا محمدًا عبدالله ورسوله، هو .. مَن هُو؟!! صفيّ القلب، نقي الفؤاد، طيب المنشأ، كريم المعشر، أسلم الناس صدرًا وأزكاهم نفسًا، وأعطرهم -إن شممت منه ريحا كان- مسكًا، وأحسنهم بحكمة ربه سلوكًا وخُلُقًا، قال عنه ربه في قرآنه ذي الذِّكْر: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. أمَّـا بَعْــد:
فلقد خلق الله تعالى عباده ليعبدوه ويخلصوا له في العبادة والطاعة والعمل له وحده لا لغيره؛ فقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ} [البينة:5]، وقال عز وجل لنبيه عليه الصلاة والسلام: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي* فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:14 – 15].
تعالَوْا بنا لنقف اليوم -أيها الإخوة والأخوات- مع «أهم عمل للقلب» مع «طوق النّجاة في حياة المؤمنين» وطريق «ميلاد قلوب الصالحين والمُصْلِحين» وسبب «نُصْرة الأمّة وقيام شريعتها» وشرط «قبول الأعمال عند الله تعالى».
حديثنا اليوم:
– عمّا جعله الله شرطًا لقبول القول والعمل.
– عما لا يليق ولا يجوز في حقّ مُسْلمٍ يعي أن الله تعالى غني عن الشرك والشركاء.
– عمّا يكون سببًا في تحقيق الفلاح والنجاة في الدنيا والآخرة.
– عن السرّ الذي بينك وبين الله تعالى في كلّ حال ومآل.
– عن طوق النّجـاة في بحار الشرك والضلال.
– عمّا يكون سببا في تخليد السيرة الحسنة للمسلم.
– عن الشيء الذي يفسّر لماذا ينتشر علم عالم أو يبقى الأثر الحسن لداعية.
ويكون مدار حديثنا عن ((الإخلاص)) حول العناصر التالية:
أولا: مفهوم الإخلاص لغة واصطلاحًا.
ثانيًا: حاجتنا إلى الإخلاص.
ثالثًا: عقبات في طريق الإخلاص والمخلِصين.
رابعًا: الطريق إلى تحقيق الإخلاص في القلب.
خامسًا: ثمرات الإخلاص وثواب المخلِصين.
فأعيروني القلوب والأسماع؛ وأسأل الله تعالى الذي جمعنا في الدنيا على طاعةٍ من طاعاته ألا يحرمنا وإياكم من الاجتماع تحت ظلّ عرشه يوم لا ظِلّ إلا ظلّه..
والإخْلاص هو سرّ قبول العبادات والأعمال كلّها؛ فلا يُقبل من العمل إلا ما كان لوجه الله خالِصًا، كما أنّ الله سبحانه وتعالى هو الواحد الأحد الذي لا يقبل شريكًا له في قول أو عمل، وقد ورد في السُّنّة ما يؤكّد هذه الحقيقة بقوله عليه الصلاة والسلام: {قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك, من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه} [رواه مسلم في صحيحه]. فأخلِصُوا لله الأعمال, واطلبوا ثوابها من الله جلَّ وعلا؛ فإنه الكريم وصاحب العطاء الذي لا ينفد…
والحديث اليوم عن أخطر ما ينبغي أن يحققه العبد، كان سفيان الثوري -رحمه الله– يقول: «ما عالجت شيئا عليَّ أشدّ من نيتي؛ إنها تتقلب عليّ؛ فالقلوب كثيرةُ التقلُّب والتحوُّل في قصودها ونياتها» نعم الحديث عن الإخلاص، ونحن أحوج ما نكون إلى تعلّم النيّة والإخلاص والبحث عن طرقه ووسائله؛ قال يحيى بن أبي كثير: «تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل».
العنصر الأول: مفهوم الإخلاص
والإخلاص -أيها الأحبّة الكرام- عُرِّف لغويًّا بأنّه:
النجاة، خلص الشيء أي نجا وسلم من كل نشب.
والمخلص هو الذي وحَّد الله تعالى خالصاً، ولذلك قيل لسورة قل هو الله أحد: سورة الإخلاص؛ لأن اللافظ بها قد أخلص التوحيد لله عز وجل.
وكلمة الإخلاص هي كلمة التوحيد –كما قال ابن منظور في لسان العرب-.
ويأتي الإخلاص بمعنى الاختصاص، فكما يقال صاحب القاموس المحيط: استخلص الشيء لنفسه أي استخص نفسه به، فكذلك إخلاص العمل لله، أن تخص به الله دون غيره.
وأمّا في الاصطلاح:
فقد نقل إلينا الإمام النووي في “المجموع شرح المهذّب” قول سهل بن عبد الله التستري –رحمه الله- الذي يقول فيه: «نظر الأكياس في تفسير الإخلاص فلم يجدوا غير هذا: أن تكون حركاته وسكناته في سره وعلانيته لله تعالى وحده، لا يمازجه شيء لا هوى ولا نفس، ولا دنيا».
وقال ابن القيم في مدارج السالكين: هو تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، وهو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة.
والإخلاص هو: نسيان رؤية الخلق بدوام النظر إلى الخالق.
كما أنه يعني: إفراد الله تعالى بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله تعالى دون شيء آخر، من تصنع لمخلوق، أو اكتساب محْمدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق أو معنى آخر سوى التقرب إلى الله تعالى.
ثانيًا: حاجتنا إلى الإخلاص:
ولا شكّ أيّها الأحبّة أننا في أمسّ الحاجة إلى تحقيق الإخلاص، وتنبع هذه الأهمية من أن أعمال القلوب هي الأساس الذي تقوم عليه الأعمال كلها، كما أنّ من بين أسباب حاجتنا إلى الإخلاص ما يأتي:
1. لأنّه أمر الله تعالى الذي أمر به في محكم تنزيله، كما أنّه هو أصل الدين وقوامه؛ قال عزّ وجلّ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]. وفي تنفيذ أمر الله تعالى تحقيق السعادة الذاتية دنيا وأخرى.
2. هو طريق الأنبياء المرسلين، وسبيل نبينا محمد خاتم النبيين، فالإخلاص هو حقيقة الدين، وهو مضمون دعوة الرسل عليهم السلام، كما اعتبر أنّ من سار على غير هذا الطريق فقد ضل وخسر خسرانًا مبينًا؛ قال الله تعالى آمرًا نبيه المصطفى بقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 11]، وقال أيضًا: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 14، 15]. فالإخلاص وصية النبي محمد لمعاذ بن جبل ولنا من بعده، فقد ثبت في حديث الإمام الحاكم في المستدرك؛ فعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِنِي، قَالَ: «أَخْلِصْ دِينَكَ يَكْفِكَ الْعَمَلُ الْقَلِيلُ» وقال الإمام الحكام “هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ“.
3. حاجتنا إلى الإخلاص في أنّه سبب وغاية خلق الموت والحياة، كما قال المولى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2] ففي “مدارج السالكين” قال الفضيل بن عياض –رحمه الله- هو أخلصه وأصوبه. قالوا: يا أبا علي ما أخلصه وأصوبه؟ فقال: إنَّ العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة. فمن لم يحقق الإخلاص لم يحقق الغاية التي من أجلها خلقه الله وخلق الموت والحياة!
4. التحصين من أذى الشيطان؛ فإنّ الشيطان توعّد بغواية بني آدم إلا من سار على طريق الإخلاص والمخلصين -نسأل الله تعالى أن يجعلنا من المُخْلِصِين المُخْلَصِين-، قال الله تعالى -على لسان إبليس-: {رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} فكان ردّ الربّ العليّ عليه: {هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 39 – 42]. فهذا تصريح من إبليس بأنه لن يقترب من المخلِصين المخلَصين ولن يستطيع فرض السيطرة عليهم: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 82، 83].
5. مخافة أن يذهب أثر أعمالنا الصالحة؛ فلا حلّ لبقائها في ميزان حسناتنا والاستفادة منها يوم العرض على الله إلا بالإخلاص، قال عزّ وجلّ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. وهي الأعمال والأقوال التي لم يكن المقصود منها وجه الله، ولا تحقيق مرضاته. وقد روي عن بعض الحكماء أنه قال: مثل من يعمل الطاعات للرياء والسمعة، كمثل رجل خرج إلى السوق، وملأ كيسه حصاة، فيقول الناس: ما أملأ كيس هذا الرجل، ولا منفعة له من عمله سوى مقالة الناس ولا ثواب له في الآخرة. ويقول المولى جلّ في عُلاه: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾.
6. حاجتنا إلى الإخلاص؛ لأنّ صحة العمل وشرط قبوله مرتبط بصحّة النيّة، ففي الحديث المشهور –كما عند البخاري ومسلم واللفظ للبخاري-: «إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا، أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ» فما كان لله دام واتصل، وما كان لغيره انقطع وانفصل.. ولا سير إلى الله بلا إخلاص.
7. بسببه ينجو العبد من الفتن، لا سيما في زمنٍ كثرت فيه الفتن، والعبد منّا أحوج ما يكون إلى ما ينجيه من فتن الدنيا وشهواتها؛ وقد ورد في شُعب الإيمان للبيهقي عن ثوبان رضي الله عنه: قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «طُوبَى لِلْمُخْلِصِينَ أُولَئِكَ مَصَابِيحُ الدُّجَى تَتَجَلَّى عَنْهُمْ كُلُّ فِتْنَةٍ ظَلْمَاءَ» ورواه أبو نعيم في الحلية.
8. حاجتنا إلى الإخلاص من حاجتنا إلى عُلُوّ المكان والمكانة، ورفعة القيمة والقامة؛ ففي الحديث الصحيح كما عند البخاري ومسلم من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أنّ النبي صلى الله عليه وسلّم قال له: «إِنَّكَ لَنْ تُخَلَّفَ، فَتَعْمَلَ عَمَلًا تَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ، إِلَّا ازْدَدْتَ بِهِ دَرَجَةً وَرِفْعَةً».
9. حياءً من الله مِنْ أن يرى في قلوبنا غيره وابتغاء مرضات غيره؛ خاصة وأنّه سبحانه لا تخفى عليه خافية، ويحيط بالسرّ والعلانية، وسيجمعنا في يوم تُبْلَى فيه السرائر، ويُفضح فيه المنافقون والكذّابون؛ قال جلّ وعزّ: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات: 9- 10]. وفي الحديث -عند مسلم- من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ». فانظر ماذا تتمنى أن يرى الله في قلبك؟!!
10. لأنّه إذا غاب الإخلاص فقد حضرت كل صفات السوء والبلايا: فإنّه لما غاب الإخلاص في حياة الكثير من الناس اليوم، ظهر الشرك والرياء والمراءاة والشهرة، بل الغش والخداع والاحتيال والكذب، والتزلف والتلون، والعجب والكبر، والغرور والمداهنة والنفاق، نعوذ بالله من سيئ الأخلاق.
ثالثًا: عقبات في طريق الإخلاص والمخلِصين
ولا شكّ أيضًا -أيها الأخوة- من أنّ السالك طريق النجاح سيقابل الكثير من العقبات والعراقيل؛ وتلك طبيعة الطريق، ولذا جاءت الوصية في حياة المؤمنين العاملين للصالحات في سورة العصر: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}.
كما أنّ سالك الطريق إلى الله، والمبتغِي رضوان مولاه سيجد في الطريق الكثير والكثير من التحديات والعقبات، لكنه بفضل الله ومعونته له سيصمد أمامها ويتخطَّاها ليبلغ الآمال، والعقبات التي تواجه الإنسان المسلم في طريق تحقيق الإخلاص كثيرة للغاية، لكني أخص الحديث هنا عن الآتي:
1. فتور الهمّـة: والمسلم مطالب بالعمل إلى آخر لحظة من لحظات حياته؛ فلا يتكاسل ولا يملّ ولا تفتر همّته أبدًا حتى لو كانت الدنيا تنتهي أو وجد الساعة تقوم؛ ففي الحديث عن أنس رضي الله عنه، كما روى البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنْ قَامَتِ السَّاعَةُ وَفِي يَدِ أَحَدِكُمْ فَسِيلَةٌ؛ فَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا تَقُومَ حَتَّى يَغْرِسَهَا، فليغرسها».
2. الشبهات في طريق المسلم: والشبهات أيضًا عقبة كئود في طريق المخلِصين، تجد الشيطان يأتي للإنسان ليفسد عليه إخلاصه، فيقول: من أنت حتى تدخل الجنة؟ وماذا قدّمت؟ ومن أنت حتى تتسابق مع الصالحين السابقين؟ أنت هالِك هالِك!! هكذا يثير الشيطان الشبهات المضيعة لجهد المخلصين، فيجيب عليه ابن الجوزي بقوله: (ربما فاز الشيطان بمثل هذا) لا تعط له فرصة، ولا تستمع لشبهاته، وصدّق ربّك، أتصدق الشيطان الذي عاند وتكبّر ولم يسجد لأبيك آدم أوّل الخلق، أهو أصدق أم الله؟ بالتأكيد: ليس هناك أصدق من الله قيلا ولا حديثًا..
3. الشهوات تقطع طريق الإخلاص: فالشهوة تحرق العمل الصالح، والمؤمن الحقّ هو الذي غلب عنده باعث الدين على باعث الهوى والشهوة، وانتصرت عنده حوافز الآخرة على حوافز الدنيا وآثر ما عند الله على ما عند الدنيا والناس. والحلّ أن يجاهد الإنسان شهواته ويعمل أنّ ما يُحْرم منه من حرام يأخذه غدًا في الجنة في حِلّه، فلا تضيّع أخي المسلم لذة باقية بشهوة فانية لا تدوم..
رابعًا: الطريق إلى تحقيق الإخلاص في القلب
هاك خريطة الطريق لمن أراد السلوك، وبها الإشارات والعلامات الدالّة والمميِّزة للمخلِص، والمميَّزة البارزة على أرجاء الطريق، ومن بين وسائل تحقيق الإخلاص وعلاماته ما يأتي:
1. مجاهدة النفس، وذلك ملازمة تقوى الله، واستحضار عظمته سبحانه ومراقبته على كل حال، ولا يتحقق ذلك بالإسرار بالعبادة والخلوة بالله كثيرًا، بالإضافة إلى كثرة الدعاء واللجوء إليه بأن يثبت القلب على الإخلاص وألا يفتنك في دينك، كما كان دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلّم: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك). ومما ثبت أيضًا: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أيها الناس، اتقوا هذا الشرك فإنه أخفى من دبيب النمل”، فقال له من شاء الله أن يقول: وكيف نتقيه وهو أخفى من دبيب النمل يا رسول الله؟ قال: “قولوا: اللهم إنا نعوذ بك من أن نشرك بك شيئا نعلمه، ونستغفرك لما لا نعلمه“.
وقد صَلَّى أبو أمامة الباهلي -رضي الله عنه- يومًا في المسجد، والمسجد مليء فقام رجل يصلي ركعتين فسجد واشتد بكاؤه، بكاء هذا الرجل فلما انتهى من صلاته وجعل يمسح دمعه بطرف عمامته، قال له أبو أمامة رضي الله عنه: “ما أحسن بكاؤك لو كان في بيتك” وكأنه يقصد: ضرورة الخلوة بالله تعالى بعيدًا عن أعين الناس أحيانًا.
2. أن يستوي لديك المدح والذّمّ من الناس إذا قدّمت عملاً مّا: ولك أن تنظر إلى حال الصالحين المخلصين الذين يعملون العمل ولا يبتغون من الناس جزاء ولا شكورًا؛ قال سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 8 – 10]. ولا شكّ أن هذا أمر شديد الصعوبة، لكنه يسهل على من يسّر الله عليه، وقد سئل التستري يومًا: “أي شيء أشد على النفس؟! قال: “الإخلاص؛ لأنه ليس لها فيه نصيب“.
ومن روائع مواقف السلف في هذا الشأن: أن رجلاً زاحم سالم بن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهم- في منىً، فالتفت الرجل إلى سالم -وهو لا يعرفه- فقال له: إنّني لأظنُّك رجل سوءٍ! فأجابه سالمٌ -وهو من خيار التابعين- بقوله: ما عرفني إلا أنت.
3. النظر الدائم إلى ثواب الآخرة لا ثواب الدنيا: لكن لا مانع من الطموح في الدنيا إلى بلوغ ما تتمنّى من مادة أو معنى، لكن يكون منتهى أمل المؤمن ثواب الله في آخرته؛ فهي الدائمة الباقية التي لا فناء ولا زوال فيها. فالعبد إذا تعلق بالدنيا وجعلها همه أعطته ظهرها، على العكس من الزاهد المخلص الذي يتعلق بالآخرة ويجعلها شغله الشاغل، يرى الدنيا وقد أتته راغمة، فسبحان الله على عظيم بلائه للعباد… ويجسد تلك الحقيقة حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: «مَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ فَرَّقَ اللَّهُ عَلَيْهِ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا كُتِبَ لَهُ، وَمَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ نِيَّتَهُ جَمَعَ اللَّهُ لَهُ أَمْرَهُ، وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ» [رواه ابن ماجة وصححه الألباني]. فالحرص على نيل الأجر من الله -سبحانه وتعالى- والإكثار من الحسنات..
4. تذكّر عقوبة المرائي في الآخرة، والخوف من الفضيحة (سواء في الدنيا أم في الآخرة): فالمُرَائِي له عقوبة شديدة يوم القيامة: واستمع بقلبك أخي المسلم، أختي المسلمة إلى ما قاله ربنا في محكم تنزيله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الماعون: 4 – 7]، وانظروا أيضًا إلى هذا الحديث الرهيب، المَرْوِيّ عند الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة أنه قال: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِذَا كَانَ يَوْمُ القِيَامَةِ يَنْزِلُ إِلَى العِبَادِ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمْ وَكُلُّ أُمَّةٍ جَاثِيَةٌ، فَأَوَّلُ مَنْ يَدْعُو بِهِ رَجُلٌ جَمَعَ القُرْآنَ، وَرَجُلٌ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ كَثِيرُ المَالِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِلْقَارِئِ: أَلَمْ أُعَلِّمْكَ مَا أَنْزَلْتُ عَلَى رَسُولِي؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ. قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا عُلِّمْتَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ فُلَانًا قَارِئٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِصَاحِبِ المَالِ فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: أَلَمْ أُوَسِّعْ عَلَيْكَ حَتَّى لَمْ أَدَعْكَ تَحْتَاجُ إِلَى أَحَدٍ؟ قَالَ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَمَاذَا عَمِلْتَ فِيمَا آتَيْتُكَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَصِلُ الرَّحِمَ وَأَتَصَدَّقُ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَوَادٌ فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ، وَيُؤْتَى بِالَّذِي قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ لَهُ: فِي مَاذَا قُتِلْتَ؟ فَيَقُولُ: أُمِرْتُ بِالجِهَادِ فِي سَبِيلِكَ فَقَاتَلْتُ [ص:593] حَتَّى قُتِلْتُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: كَذَبْتَ، وَتَقُولُ لَهُ المَلَائِكَةُ: كَذَبْتَ، وَيَقُولُ اللَّهُ: بَلْ أَرَدْتَ أَنْ يُقَالَ: فُلَانٌ جَرِيءٌ, فَقَدْ قِيلَ ذَاكَ”، ثُمَّ ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رُكْبَتِي فَقَالَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أُولَئِكَ الثَّلَاثَةُ أَوَّلُ خَلْقِ اللَّهِ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْمَ القِيَامَةِ»… وقال عنه الترمذي: «هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ»، وصححه الشيخ الألباني.
5. معرفة الله وعظمته وقدرته والإقرار الدائم بفضل الله تعالى على العبد: قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58].. وصدق الله إذ يقول: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29]. فما من فضل ولا منّة ولا نعمة إلا وهي من عند المنعم الوهّاب سبحانه، فلا تنشغل بالنعمة عن المُنعِم، ولا بالكون عن المُكَوِّن. وهذه وسيلة مؤكّدة للحذر من الرياء قبل تأدية الأعمال وأثناء تأديتها وبعد الانتهاء منها؛ فالفضل فضل الله في أول العمل أنه سبحانه أعطاك القدرة على التفكير في القيام بالعمل، ثم في أثناء العمل له الفضل كله؛ لأنه وفقك وتفضّل عليك بأن شرعت فيه، وفي نهاية العمل وبعد تأديته تقرّ بكمال رحمته عليك أن أعانك فقدّمت ما قدّمْتَ، ومنه القبول عزّ وجلّ.
6. الحرص على عدم تحديث الناس بكل عملِ مميز تقوم به: قال رجل لتميم الداري رضي الله عنه: “ما صلاتك بالليل؟ فغضب غضباً شديداً ثم قال: والله لركعة أصليها في جوف الليل في سرّ أحب إلى من أن أصلي الليل كله، ثم أقصّه على الناس”. وذلك يستلزم من السالك طريق الإخلاص أن يُخفي عمله عن الناس (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها)..
خامسًا: ثمرات الإخلاص وثواب المخلِصين:
أولا: الإخلاص يوجد الدافع الإيجابي لدى العبد نحو العمل الجادّ وتحمّل المشاقّ: فالمسلم المخلِص إيجابي في قوله وعمله، يتحرّك وقلبه مهموم بالحق وبدعوة الله تعالى، يرى الأمل من باطن اليأس ويعيش بالتفاؤل في حياة التشاؤم والمتشائمين، يعمل على إنكار المنكر وتعريف المعروف، ويحافظ على الفرائض ويؤدي النوافل ويسعى في قضاء الحوائج، ولا يخش في الله لومة لائم، ويرى النصر قريبا وإن رآه الناس بعيدًا؛ فالمسلم ما دام أنه قد أسلم وجهه لله، وأخلص نيته لله، فإنّ حركاته الإيجابية وسكناته الفاعلة، ونومه، ويقظته، تُحْسَب في ميزان حسناته؛ لأنه ابتغى بها وجه الله تعالى. كما أنه يعمل على تحويل العادات إلى عبادات، وصدق الله إذ يقول: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162].
ثانيًا: كفاية شرور النّاس، ونيل معيّة الله تعالى: ففي إعلام الموقعين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه، كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله» فالمخلِص معه ربه يحميه ويقويه ويثبته وينصره ويكفيه من شرور أعدائه، حتى على الشيطان، فكما قال أحد الصالحين: ((إذا أردت أن تتغلّب وتنتصر على الذي يراك ولا تراه، فاستعن بالذي يراك ويراه)). ولنا أن ننظر في حدث الفتنة والإغواء لنبي الله يوسف عليه السلام؛ حيث دعته امرأة العزيز لفعل الفاحشة، لكن لأنه كان مخلِصًا حماه الله؛ ففي القرآن: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 23، 24].
ثالثًا: كثرة فعل الخير وشيوع عمل المعروف في المجتمع؛ فالمخلِص يحب للناس الخير، ويُجْهِد نفسه في بذله للآخرين، ويكفيه شرفًا أن يكون مفتاحًا للخير مغلاقًا للشرّ، كما في الحديث: «إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ، وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ، مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ» [رواه ابن ماجه وحسّنه الألباني]. جعلنا الله وإيّاكم مفاتيح للخير مغاليق للشرّ في كل أوان وعلى كُلّ حال.. وكانت العرب قديمًا تقول: (صانع المعروف لا يقع وإذا وقع وجد متكئًا). ولا يكون دافع المسلم المخلِص إلا ابتغاء وجه الله ونيل مرضاته. وصدق الله إذ يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة: 27].
رابعًا: ضمان الفلاح في الدنيا والآخرة: فكما قال إمامنا أبي حامد الغزالي –رحمه الله-: «الناس كلهم هلكى إلى العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم». ويكفي المخلص شرفًا أن الله يكتب له الفوز والنجاة في الدنيا وفي الآخرة بالذات، كما قال تعالى في سورة الإنسان –في شأن المخلِصين-: «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمْ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً». فهم قد صبروا على انتظار المثوبة من الله، وعدم انتظار مثوبة من أحد؛ لأن عملهم كان خالِصًا لوجهه سبحانه فاستحقوا العِوض من الله..
ففي الإخلاص ضمان الفلاح والغفران ولو كان عمل المرء صغيرا أو بسيطا من وجهة نظره، ولنا أن نستذكر أن بغيًّا من بغايا بني إسرائيل كانت قد سقت قلبا –والواضح أنها لم تعمل عمل خير غير ذلك لكنها كانت مخلصة فيه- فغفر الله لها فأدخلها الجنّة.. وقصة الرجل الذي أزال غصن شوك من طريق الناس.
خامسًا: يمنع الإنسان من الشعور بالإعجاب ويشعره بالتقصير: فالمُخْلِص الحقيقيّ هو الذي يخشى عدم القبول عند الله فيجدّ ويجتهد ويرَى عملَه أمام نفسِه صغيرًا، وأمام ربه أصغر، لكنه يسارع إلى الخيرات؛ خشية الوقوع في الغرور ويجتهد في تحقيق الإخلاص، وانظر إلى حال أسرة نبي الله زكريا عليه السلام حين قال المولى جلّ في عُلاهُ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، ويقول أيضًا سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 60، 61]. وللمسلم أن يعتبر: حين يقرأ قوله تعالى: [لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً]. فيا ليت كل إنسانٍ يفكر في الآية السابقة ويعلم أن الصادقين سيُسْألُون ويحاسبون عن صدقهم فما باله بالكاذبين!
سادسًا: تفريج الكروب والهموم: ولا أدلّ على ذلك من قصة النفر الثلاثة الذين آووا إلى الغار وسُدّ عليهم فم الغار، فما وجدوا إلا أن يتضرّعوا إلى الله بعمل صالح كانوا قد أخلصوا فيه لله، فلما دعوا الله تعالى بأعمالهم الصالحة –التي أخلصوا فيها لله- فرّج الله عنهم الكربة وأخرجهم سالمين غانمين. والقصة مشهورة ورواها الإمام البخاري في الصحيح، وهي على النّحو التالي: «انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى أَوَوْا المَبِيتَ إِلَى غَارٍ، فَدَخَلُوهُ فَانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الجَبَلِ، فَسَدَّتْ عَلَيْهِمُ الغَارَ، فَقَالُوا: إِنَّهُ لاَ يُنْجِيكُمْ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ إِلَّا أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبِقُ قَبْلَهُمَا أَهْلًا، وَلاَ مَالًا فَنَأَى بِي فِي طَلَبِ شَيْءٍ يَوْمًا، فَلَمْ أُرِحْ عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ وَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْلًا أَوْ مَالًا، فَلَبِثْتُ وَالقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ، أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا حَتَّى بَرَقَ الفَجْرُ، فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ، فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ”، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “وَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ كَانَتْ لِي بِنْتُ عَمٍّ، كَانَتْ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَرَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا، فَامْتَنَعَتْ مِنِّي حَتَّى أَلَمَّتْ بِهَا سَنَةٌ مِنَ السِّنِينَ، فَجَاءَتْنِي، فَأَعْطَيْتُهَا عِشْرِينَ وَمِائَةَ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ نَفْسِهَا، فَفَعَلَتْ حَتَّى إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهَا، قَالَتْ: لاَ أُحِلُّ لَكَ أَنْ تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَتَحَرَّجْتُ مِنَ الوُقُوعِ عَلَيْهَا، فَانْصَرَفْتُ عَنْهَا وَهِيَ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَتَرَكْتُ الذَّهَبَ الَّذِي أَعْطَيْتُهَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ غَيْرَ أَنَّهُمْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ الخُرُوجَ مِنْهَا”، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” وَقَالَ الثَّالِثُ: اللَّهُمَّ إِنِّي اسْتَأْجَرْتُ أُجَرَاءَ، فَأَعْطَيْتُهُمْ أَجْرَهُمْ غَيْرَ رَجُلٍ وَاحِدٍ تَرَكَ الَّذِي لَهُ وَذَهَبَ، فَثَمَّرْتُ أَجْرَهُ حَتَّى كَثُرَتْ مِنْهُ الأَمْوَالُ، فَجَاءَنِي بَعْدَ حِينٍ فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَدِّ إِلَيَّ أَجْرِي، فَقُلْتُ لَهُ: كُلُّ مَا تَرَى مِنْ أَجْرِكَ مِنَ الإِبِلِ وَالبَقَرِ وَالغَنَمِ وَالرَّقِيقِ، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ لاَ تَسْتَهْزِئُ بِي، فَقُلْتُ: إِنِّي لاَ أَسْتَهْزِئُ بِكَ، فَأَخَذَهُ كُلَّهُ، فَاسْتَاقَهُ، فَلَمْ يَتْرُكْ مِنْهُ شَيْئًا، اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ، فَانْفَرَجَتِ الصَّخْرَةُ، فَخَرَجُوا يَمْشُونَ»… والناظر بتأنّ في هذا الحديث يرى كل واحد منهم كان يقول بعد أن يذكر عمله الصالح: (اللَّهُمَّ فَإِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ، فَافْرُجْ عَنَّا مَا نَحْنُ فِيهِ). ففرّج الله عنهم..
سابعًا: من ثمرات الإخلاص: تحقيق النهضة الحضارية للأمّة، إننا عندما نتخيل مجتمعنا وقد ساد فيه الإخلاص، انظر: المدرس يخلص في عمله ويشرح الدرس كاملا في مدرسته ولا يجبر طالبًا على أن يأخذ درسًا خصوصيًّا لديه، وكذا أستاذ الجامعة، ورأينا المهندس يراعي ربه في عمله فلا يغدر ولا يخون الأمانة في بنائه للعمارات السكنية، ورأينا الطبيب لا يتكاسل عن جودة عمله الطبيّ، وكذا الجندي في الحراسة والحماية لبلده، والعامل في معمله، والصانع في مصنعه، وكل مسؤول في عمله ووظيفته، حاكمًا كان أو محكومًا، إذا توفّر هذا لوجدنا حضارة تتحقق، وتقدمًا يظهر في الأُفق،…
ثامنًا: بالإخلاص تنصر الأُمّة ويتحقق التمكين: ولنا أن نذكر سويًّا معظم معارك المسلمين مع عودهم؛ حين كان الإخلاص شعارهم، كان النصر حليفهم، وعندما يهتزّ الإخلاص من القلوب تحدث الانكسارة والهزيمة، وقد حدث ذلك في غزوة أُحُد في سنة 3 هجرية وفي وقت كان رسول الله حيًّا بين أصحابه، عندما أراد بعضهم الدنيا -كما عبّر القرآن في سورة آل عمران (منكم من يريد الدنيا)- وما كان ذلك إلا للتعليم والتربية للأمّة من بعدِهم، وقد قال صلى الله عليه وسلّم –كما عند النسائي والحديث صحيح-: «إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا، بِدَعْوَتِهِمْ وَصَلَاتِهِمْ وَإِخْلَاصِهِمْ». فبالإخلاص تنتصِر الأُمّة ويمكّن لها في الأرض..
فالإخلاص -إِذًا- هو صمام الأمان للمؤمنين في حياتهم، به تزكو أعمالهم، وتضاعف جهودهم، وأجورهم، وتزداد فاعليتهم، ويشاركون في مجالات شتى في العمل، يريدون رفعة الإسلام وعزته. ومن صور ذلك ما يأتي:
•وطالب العلم يجب عليه أن يخلص في طلبه؛ ليرزَق العلم النافع، ويكون لعلمه الأثر الأكبر في حياة الناس.
•والمتعبّد بصلاة أو صيام أو زكاة أو حـج يلزمه استحضار الإخلاص في كل أعماله؛ ليَكون أدعى لقبول عمله.
•واللاجئ إلى ربه ليلا أو نهارًا يدعو الله تعالى ويلجأ إليه مخلصًا له في دعائه وقنوته؛ فيكون أدعى للاستجابة وتلبية ما أراد بإذن الله، الذي لا يُعجزه أيّ شيء.
•كما أن العلماء “المخلصون” مجاهدون بكلمة الحق في وجه الباطل، لا يخافون إلا الله تعالى ولا يخشوْن فيه لوْمة لائم. وإذا أصلَح العالِمُ باطنه أصلح الله له ظاهرَه.
•والدعاة الممارسون للخطابة والوعْظ يتحركون بدعوتهم مستشعرين الإخلاص لربهم فلا يتوقّفون عن الدعوة والعمل لدينهم مهما كانت المعوّقات.
•والأستاذ في المدرسة والجامعة بإخلاصه يوجّه تلاميذَهُ بصورةٍ صحيحةٍ نحو الفهم الصحيح للغاية التي من أجلها خلقهم الله تعالى.
•والأبوان المخلصان يتحرّكان في هذه الحياة وهدفهما إخراج جيل من الأبناء والبنات يحمل همّ الإسلام ويدافعون عنه، ويتفوّقون من أجل رفعته وإعلاء رايته فوق كلّ الرايات.
•وكل موظّف في عمله يخلص لربه في عمله؛ إرضاءً لله أولا، ثم لرفعة نفسه وأسرته ووطنه وأمّته.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا الإخلاص؛ وأن يسيِّرَنا على طريق المخلِصين؛ فإنّ أمّتنا اليوم أحوج ما تكون لتحقيق الإخلاص، ونسأله أن يرفع درجاتنا في أعلى عليين… اللهم آمين…..