لن أتحدث عن صفة الشجاعة، لكن الشجاعة حينما يتصف بها المسلم لإقامة شرع الله تعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقول الحق، وخوض ميدان العطاء لبلده وأمته تكون صفة رائعة ومنتجة، وإذا كانت الأمة تؤمل في شبابها هذا الخلق العظيم، فتراه عيانًا في دعاتها ومربيها ومعلميها ورجال أمنها، وكل النابهين والمضحين من أجلها، وذلك بالعمل الخيّر، والبناء المتماسك، والنصح والتوجيه والمتابعة، فهذا إنجاز عظيم لأبناء هذه الأمة العظيمة.
غير أن المأساة تبدو بوجه كالح حينما يتحول بعض فلذات أكبادها إلى شجعان، ولكن في الرذيلة، وأسود ولكن في الاعتداء على الآخرين، وذوي بأس شديد ولكن في معاونة الشيطان، عفوًا.. فالقضية أكبر من أن نلمّح فيها، أو نسكت عنها، أو نربت فيها على أكتاف المخطئين!!
هل بقيت التصرفات الغوغائية التي يخطط لها جملة من شبابنا بمكان من الخفاء؟ أو عدم العلم من الناس؟ مَنْ منا لم يسمع بجرأة بعضهم على حرمات النساء في الأسواق أو في غيرها؟ من منا لم يسمع بجرأة بعضهم على حقائب النساء ينهبها ويخطفها أمام مرأى ومسمع من الناس، ويهرب بها من دون رجوع؟! من منا لم يسمع عن خبث الطوية في مهاتفة النساء وإغرائهن بالأموال، ومن ثم تهديدهن بأساليب الغدر والمكيدة التي يدبرها الشيطان، وينفذها أتباعه من الجن والإنس؟ من منّا لم يسمع بتوزيع المواقع الإباحية على الطلاب والطالبات، وطلب المراسلة مع التائهين من المدمنين والمدمنات لإيقاع الفريسة في خنادق الإجرام، ومن ثم استعمالهم كدعاة ومروجين لهذا البلاء!!
من منا لم يسمع بالمراسلات الإلكترونية بالصور المتحركة التي تُعدّ ربما الخطوة الأولى من خطوات الشيطان المتطورة، ومن ثم الموعد واللقاء!! ليلي ذلك الحسرة والعار والشنار؟!
هل نحن في غفلة من هذا!!
هل سأكون محقًا حينما أقول: إنهم الذين تضمهم بيوت المسلمين، أليسوا هم الذين يرتاد آباؤهم المساجد!!
إذًا كيف خرجوا عن دائرة التدين إلى دوائر الخزي وتنكيس الرؤوس؟!
إن أسئلة أخرى ملحة عليّ أن أطرحها على مسامعكم الكريمة، تجول في خاطري تبحث عن جواب:
كيف تعلم هؤلاء أصناف الإجرام هذه؟ كيف استطاع هؤلاء أن تمتد أيديهم على ما في أيدي الناس ليس خفية كحال السرقة، وإنما نهبًا وسلبًا!!
من أين تعلم هؤلاء الاعتداء على الحرمات؟ أليست المرأة عندنا محترمة، لا يجرؤ العقلاء من الناس أن يضعوا أعينهم في مسارها فضلاً عن عينيها؟ من الذي كسر وقار المرأة في قلوب هؤلاء؟ أين شاهدوا المرأة من دون هيبة ولا حشمة؟ من الذي أرى شبابنا كيف تُسرق البيوت..؟! كيف تُحطّم الأقفال.. كيف تُهان حرمات المنازل.. ؟! هل مصادر هذا البلاء كله بعيدة عن بيوت المسلمين؟ هل اجتلبوها بالسفر إلى الخارج مثلاً؟ هل حضروا دروسًا خاصة ليتعلموا كيف تُصنع الجريمة؟ وكيف تُذبح التقاليد والعادات فضلاً عن فضائل الدين وأحكامه؟!
هل لديكم جواب.. ؟؟
أتصور أن المسافة بين هذه المصادر والشباب لا تعدو أن تكون بضعة أمتار تُعدّ على أصابع اليد الواحدة فقط!! يجلبها الأب بإرادته ويحركها الشاب أو الشابة بطرف أصبعه.
فإنك كما تعطي فسوف تأخذ، وهل نجني من الشوك العنب؟!
نعيبُ زمانَنا والعيبُ فينا …. وما لزماننا عيبٌ سوانا
قديمًا كانوا يقولون بأن المجتمع كله كان يربي ابنك؛ فالجميع كان يحرص على كل فرد في المجتمع، لا يسمحون للتفاحة المتعفنة أن تبقى بين أخواتها حتى لا تفسدهن، فهذا يوجّه، وهذا يعزّز، وهذا يثني خيرًا، وهذا يذكّر، وهذا يخبر الوالد عن خطأ اقترفه الابن ويوصيه عليه خيرًا، بعيدًا عن العنف والازدراء، ولو حصل بعض الحزم وشيء من التأديب.
أما جملة منا اليوم، فهو مع أنه تارك الحبل على الغارب، إلاّ أنه لا يسمح لك بأن تقول له في أولاده حرفًا واحدًا؛ لأن هذا يعده تعديًا عليه، أو استنقاصًا لتربيته، ويظل الجيل بين إهمال بعض الآباء، وبين سكوت المجتمع، تائهًا حيران، يرى البلايا، ويتأذى الكثير، ولا يصلح من حال بعضهم إلاّ ما رحم الله تعالى.
أيها القارئ الكريم: الثقة في النشء مطلب مهم، غير أن الإهمال ضرر بالغ، فإنه قد يريحك من نصب التربية في بداية العمر، غير أنه وجع شديد في المآل.
لا أصدق أبدًا أن بعض الآباء لا يتمنون النجاح والفلاح لأبنائهم.. لا أصدق، غير أني أرى بعيني كيف يتنصل الوالدان من متابعة الأبناء، سواء بالانشغال بالخير أو الشر أو حتى بالمباحات وطلب الرزق.
كم أب كان يعتقد ـ مخطئًا بالطبع ـ أن التربية إغداق الأموال والترفيه وشراء أنواع الجوالات لأبنائه بلا حدود ومنحهم ورقة السفر إلى أي مكان ومع من يريدون!! وهو بذلك كأنه يقيم الحجة على أبنائه بأنه ما قصّر في حقهم، فلما انحرفوا عن الطريق الجاد، شعر بأنهم لم يوفوه حقه من الشكر والبر، وهو في الحقيقة منحهم الدلال من دون بصيرة.
قل لي بربك: كيف تكون مربيًا شفوقًا، وأنت تكافئه بمزيد من الشهوات والمغريات؟ ماذا تنتظر منه وقد بادلته الرضا بالفتن؟! إنه أقل عقلاً من أن يتحمل هذه الفتن التي تموج بالناس عمومًا في الفضائيات والمقاطع القصيرة فضلاً عن الشباب، إنه ربما لقوة شبابه، وغياب الحكمة والتجربة عنه لا يرى النور الحقيقي، بل يغره السراب، فيلهث خلفه. إن لديه رغبات ليست كرغبات الكبار، ونظرات ليست كنظراتهم، فهل وعى الآباء والأمهات كل ذلك؟
لماذا بعضنا هكذا، لابد أن يجرب، لابد أن يذوق حرارة المأساة، أليس لنا في هذه الأخبار التي نشاهدها في إعلامنا عظة وعبرة؟! فهذا اعتدى على أخيه بالقتل فأُقيم عليه القصاص، وهذا سوّلت له نفسه فروّج المخدرات فقُتل حدًا، وهذا هانت عليه نفسه فسرق فقُطعت يده، وهذا خدعته شهوته لينتهك المحارم فنال ما نال من العقاب، وهذا شرع الله تعالى الحكيم، لا يقيمه الحاكم المسلم إلاّ عدلاً وقسطًا، لتُصان الأعراض، وتُحفظ الأموال، وتطمئن الأنفس.
فالمسؤولية ليست على الحاكم فحسب تجاه هذه الجرائم، بل على كل فرد منا، فالأمن الخلقي مسؤولية الجميع، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول : “كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته”.
فهلاّ -أيها الآباء- صرنا يدًا واحدة أمام كل ما يثير لدى شبابنا غرائزهم، وهلاّ كنّا صفًا واحدًا أمام كل منحرف عن جادّة الصواب؟
فهلاّ نأخذ بأيديهم نحو الهداية والسعادة بكل رفق ولو حادوا عن الطريق، ونوجّههم بكل حكمة نحو بوابة الإيمان الوادعة، نحو المساجد والحِلَق، نحو طلب العلم والمعرفة، نحو التعاون على الخير والأمر بالمعروف.
وإن نقطة البداية هي أن نستمع منهم، ولتكن صدورنا واسعة لمشكلاتهم، لا نواجههم بالقمع و الإحباط، ولا نكثر عليهم من اللوم والعتاب، بقدر ما نعزز لديهم جانب العطاء والبناء.
دعونا نفتش عن مواهبهم لنصقلها، وعن إبداعهم فنشجعه، وإن الشجاع في الشر، لابد وأن يكون مقدامًا بعد الهداية في الخير، فما صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلاّ أسوة حسنة، كان بعضهم يسجد للصنم والوثن، فأعزه الله بالإسلام، فأعز الله الإسلام به.
حينما يُصاب العقلاء في طمأنينتهم، وحينما يزداد لديهم الحذر، فإن جزءًا كبيرًا من السعادة والراحة قد فاتهم، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) رواه الترمذي. كيف سيقضي الناس حوائجهم في ظل جنوح هؤلاء الشباب على ممتلكاتهم، وكيف سيأمنون على حرماتهم في ظل غيبتهم؟ وخصوصًا أن بعض الجراح لا تندمل، بل تبقي لها آثار نفسية خطيرة على كل من شارك فيها رضًا أو بغير رضًا.
إن هداية الشباب ليست معجزة، وإنما علينا البلاغ الحسن، الذي يجب أن نتعلمه من خلال المحاضرات المشاهدة والمسموعة، ومن خلال حضور البرامج التدريبية التي تُقام هنا وهناك، ابحث أيها الأب عما يثري معلوماتك في تربيتك لابنك، فإنه استثمارك الحقيقي.