نحن بحاجة ماسة إلى ضرورة زيادة عدد المستشفيات والعيادات النفسية، وكذلك المخصصات المالية للأبحاث الطبية النفسية، والتركيز على سبل وقاية الشباب والاهتمام بالتربية النفسية والصحية والإنسانية في ثقافتنا ومدارسنا وجامعاتنا..
كم ممّن عرفنا يشتكي مرضاً ولم يُعرف له سبب، وأفضل الأطباء المتخصصين والاستشاريين لا يستطيعون تشخيص مرضه، فربما صداع مزمن، زيادة في ضربات القلب أو عدم انتظامها، إمساك حاد، شعور بالضيق وصعوبة في التنفس، إجهاد وأرق دائم مع فتور جسدي، آلام في المعدة، اعتلال المزاج.. وإن اجتمعت تلك الحالات وبعد تشخيص كامل وفحوصات دقيقة معملية وإكلينيكية سينتهي الأمر بأنه حالة نفسية مجرّدة!.
تلك هي “الجسدنة” وهي حسب التصنيف الدولي للاضطرابات النفسية والسلوكية.. مفهوم لاضطرابات جسدية الشكل تتمثل في مجموعة من أعراض واضطرابات جسدية، يشكو منها الإنسان دون أن يكون لها سبب عضوي أو تغير فسيولوجي يشخصها، تتمثل هذه المجموعة باضطراب مزمن وشكاوى جسمية متعددة من قبل الشخص، دون سبب عضوي، ولكنها ارتباط مباشر بالضغوط النفسية والاجتماعية، ويجب في تشخيص هذه الاضطرابات أن وجود شكاوى جسمية مستمرة منذ عدة سنوات، وأن تتضمن ثلاثة عشر عرضاً مرضياً بحيث لا تكون ناتجة عن مرض عضوي، مثل: القيء وآلام البطن، والإسهال، وآلام المفاصل والظهر والصدر والدوخة… ويصاحب اضطراب التجسيد غالباً أعراض القلق أو الاكتئاب، بالإضافة إلى السلوك المضاد للمجتمع والمصاعب المهنية والمشكلات الزوجية، وتصل أحياناً إلى تخيلات سمعية مع فهم الواقع بطريقة سليمة، وكثيراً من مواصفات الشخصية الهستيرية.. حيث تبلغ نسبة انتشار اضطراب الجسدنة نحو 45 % من بين المرضى النفسيين بين سن الـ40 إلى الـ65 عاماً.
حسب رسالة هارفارد للصحة النفسية تقول إن ما بين 50 – 30 % من المرضى الذين يزورون عيادات الأطباء حول العالم، يعانون من أعراض للألم، أو الإجهاد، دون وجود سبب جسدي واضح لها. ويمكن تصنيف بعض هؤلاء الأشخاص، الذين يتوجهون لطلب المساعدة من هذه الأعراض التي لا يمكن تفسيرها، ضمن الأشخاص الذين يعانون من الاضطرابات الجسدية نفسية المنشأ أو اضطرابات الجسدنة “somatoform disorders”، وفي التاريخ الماضي للطب العقلي، كان الرأي السائد يقول إن هذه الاضطرابات (التي غالباً ما كانت توضع ضمن حالات الهستيريا)، هي علامة على وجود صراع في العواطف أو المشاعر أو صدمات سابقة لم يتم حلها. وفي بدايات سنوات العشرينات من القرن الماضي بدأ استخدام مصطلح الجسدنة “somatization”، الذي حدد تعريفه بأنه تحويل الواقع العاطفي إلى أعراض جسدية.
تقول كثير من الدراسات إن أكثر من 50 % من الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب يشكون من صداع متفاوت لا يمكن لأدوية الصداع التقليدية علاجه إلا بتحسن الحالة النفسية والخروج من الاكتئاب، كما تتفرع اليوم الأمراض النفسية إلى 300 مرض نفسي وفقًا لشدة خطورتها؛ منها ما هو شديد الخطورة ومتوسط الخطورة ومنخفض الخطورة، كما أن آخر إحصائية تقول إن 970 مليون شخص في جميع أنحاء العالم اليوم يعانون اضطرابات نفسية مع وجود هوة كبيرة بين الحاجة الملحة لخدمات صحية نفسية متزايدة.
وفي نفس المنعطف، كشفت نتائج مشروع المسح الوطني للأمراض النفسية وضغوط الحياة المسببة لها أن الشباب يمثلون 40 % من إجمالي المصابين بالاضطرابات والأمراض النفسية في المملكة، وأن 95 % من الذين أصيبوا بأمراض نفسية لم يتلقوا العلاج، كما أوضح المسح أن اضطراب قلق الانفصال يتصدر الاضطرابات النفسية عند النساء بنسبة 13 % والرجال بنسبة 11 %، كما أبان المسح أن المواطنين الأكثر تعليماً هم الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض النفسية مقارنة بالأقل تعليماً.
أفراد مجتمعنا من كل الأعمار والطبقات الاقتصادية والبيئات الاجتماعية المختلفة يعانون ضغوطاً حياتية عدة مع تغيرات اجتماعية سريعة طرأت عليه، ورسائل سلبية نفسية تملأه حد الضجيج، وأسباباً هنا وهناك، حتى غدت المشكلات النفسية تتفاقم فيه بازدياد، ولكنه لم يزل حساساً نحو كل ما يخص “الطب النفسي”، وما زالت كلمة “مريض نفسي” تسبب رهاباً وإن كان هناك وعيّ ملحوظ في السنوات الأخيرة.
“علم النفس” وفروعه وتطبيقاته من أهم العلوم الإنسانية وأقواها علاجاً وفهماً وتحليلاً لسبر أغوار النفس البشرية بكل أبعادها.. وكما سماه تاريخ الفلسفة بـ(طب التهذيب) أو (هندسة الأخلاق)، ولكننا بحاجة ماسة إلى ضرورة زيادة عدد المستشفيات والعيادات النفسية، وكذلك المخصصات المالية للأبحاث الطبية النفسية، والتركيز على سبل وقاية الشباب والاهتمام بالتربية النفسية والصحية والإنسانية في ثقافتنا ومدارسنا وجامعاتنا.. مع بناء برامج توعويّة وثقافة نفسيّة توضح أهمية علم النفس وتطبيقاته مع دعم دراساته وأبحاثه ومتخصصيه.. فالنفس البشرية وكرامتها وصحتها تستحق الكثير.
————————————–
بقلم د. محمد المسعودي