الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وآله وصحبه التابعين.
إن مما فطر الله عليه النفوس أنها اجتماعية بطبيعتها، فهي تُحِبُّ المخالطة والمحادثة والمجالسة والمجانسة، فلمَّا كان هذا من طبيعتها كان لزامًا على تلك النفوس أن تسلك مسلك الحوار حتى تتعرَّفَ على ما عند الآخرين، وقد أرشد الله تعالى نبيَّه عليه الصلاة والسلام، فقال: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]، فإن الاستشارة أيُّها الإخوة تتطلَّب الحوار بين طرفين أو أكثر، فهذا توجيهٌ لأفضل الخَلْق في أفضل القرون.
أخي الكريم، إن أعضاء الأسرة الناجحة هم الذين تآلفوا فتفاهموا في معرفة منازل نفوسهم، فأنزلوها مكانها، فاحترموا الكبير، وعطفوا على الصغير، وساعدوا المحتاج ونحو ذلك، وإنَّ من أهم العوامل التي تُساعد على استمرارية هذا النجاح وأمثاله، الحوار الهادف بين أفراد الأسرة، فهو وسيلة بناء وعلاج، فما أجملَه عندما يوجد بينهم بآدابه وشروطه! لأننا في الحوار نستخرج مكنون النفوس، ونمنحها الفرصةَ لتُعبِّر عمَّا يجول في خاطرها، وقد لا نصل أيُّها الإخوة إلى التربية الحقَّة لأولادنا حتى نتعرف على ذلك، لتكون توجيهاتنا في مجراها الصحيح والسليم، نقول هذا؛ لأن الحوار هو تمهيدٌ في الوصول إلى الحقيقة التي نُريد معرفتها، فإذا عرفناها عرفنا آلية التعامل معهم تربيةً وتقويمًا وبناءً وعلاجًا ونحو ذلك.
إن الجمود بين أفراد الأسرة مما يزيد المشكلة إشكالًا ويُعقِّدها؛ لأن أوسع طريق للبناء والعلاج هو المداولة والمحاورة، فإن عُدمت تلك الإستراتيجية خسرنا كثيرًا من التربية؛ لأنها قائمة عليها، وعندما نحاور أبناءنا وبناتنا، فلا بدَّ أن نتعرف على آداب الحوار حتى يكون إيجابيًّا ذا نتيجة مقبولة، فمن آداب الحوار ما يلي:
أولًا: الاستماع الجيد الإيجابي بخلاف الاستماع السلبي، وذلك يتطلَّب إعطاء الولد الفرصة في كلامه وسرده؛ لأنه بهذا يفضفض بما لديه إلى والديه، وهما أقربُ الناس إليه، فعلينا استثمار هذه الفرصة.
ثانيًا: الجاذبية في الحوار، كأن يصحب المحاورة شيءٌ من الدعوات، والإكثار من الابتسامة ونحو ذلك، فهي تجذب المتحدِّث أيًّا كان.
ثالثًا: ضبط الانفعالات، فقد تسمع شيئًا لا يُرضيك، واصبر لأنك معالج.
رابعًا: عدم رفع الصوت في الحوار وفهم الهدف الذي كان لأجله الحوار.
خامسًا: إعادة بعض الكلمات الجميلة التي قالها الطرف الثاني إعجابًا بها، كأن يقول له أنت قلت كلمة جميلة، وهي كذا وكذا، ثم يقول ما عنده.
سادسًا: الرِّفْق في الحوار؛ لأن الرفق ما كان في شيء إلا زانَه، وما نُزِع من شيء إلا شانه؛ كما ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: (إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعْطِي علَى الرِّفْقِ ما لا يُعْطِي علَى العُنْفِ) .
سابعًا: اختيار الوقت المناسب والمكان المناسب للحوار حتى يتحقَّق الهدف.
فهذه جملة من الآداب، فعلى المتحاورين من أفراد الأسرة مُراعاتها في حواراتهم.
أيُّها الأب وأيتها الأُمُّ، ويا أيها الابن وأيتها البنت، أنتم جميعًا أركان هذه الأسرة، فإذا انهدمَ الركنُ فقد يسقط جانبٌ كبيرٌ من البيت، فإيَّاكم أن يكون أحدُكم سببًا في وجود ذلك الخَلَل.
إننا حين نُوصي ونُؤكِّد على الحوار الأسري، فإننا نهدف إلى تآلف هذه الأسرة وتداخُلها، فإن كثيرًا من النتائج الحسنة والإيجابيَّات الطيبة تأتي كثمرات للحوار الأسري الجيد، وأوصيكما أخي الكريم وأختي الكريمة بوصايا مهمة خلال هذا الحوار داخل أُسَركم، من هذه الوصايا:
الوصية الأولى: اسمع بهدف الفهم والاستيعاب؛ لا بهدف الردِّ والنقض، فقد يكون الوجه الصحيح مع مَنْ تُحاوره وليس معك، فخُذْ بقاعدة من يقول: رأيي صوابٌ، ويحتمل الخطأ.
الوصية الثانية: لا تُصدِر أحكامًا مبكرة؛ بل انتظر حتى تفهم جميع الكلام مع مَنْ تُحاورُه.
الوصية الثالثة: كن مُنْشرِحًا عند الاستماع مُصغيًا، فهذا مما يُؤدِّي إلى كسب الثقة لديك ولدى مَنْ تُحاوره أيضًا.
الوصية الرابعة: كن معترفًا بالخطأ إذا حصل ولا تنكره، فالحقُّ للجميع.
الوصية الخامسة: إذا أحسَسْتَ أن الحوار انقلب إلى جِدال عقيمٍ، فتوقَّفْ تدريجيًّا، وحاول المحافظة على ما بقي من الودِّ بينكما.
الوصية السادسة: لا تضق ذرعًا إذا لم يُستجب لك، فإنَّ الاستجابة قد لا تأتي مباشرةً، فهي تحتاج إلى شيء من الوقت.
الوصية السابعة: الاحترام أثناء الحوار هو رونقه الأساسي، فلا حوار إيجابي بدون احترام.
إخوتي الأكارم، إن جمود الأسرة عن الحوار لا يزيد الأسرة إلَّا تفكُّكًا وإشكالًا؛ بل لا يعلم الأب أو الأُمُّ عن أبنائهم شيئًا مثل ما يعلمونه عن طريق الحوار معهم، فالحوار معهم يكشف مكنون نفوسهم؛ بل إن الحوار الأسريَّ يُكسِب أفراد الأسرة الصحَّة النفسية والمتينة، وأما إذا خيَّم على هذه الأسرة السكوت إلا في الضروريَّات، فإنها أسرةٌ يعتريها الغموضُ بين أفرادها، وقد لا تستطيع هذه الأسرة أن تقوم بحلِّ مشاكلها، وذلك بسبب الفجوة بين أفرادها.
إن على الآباء والأُمَّهات وهم قدوات في هذه الأسرة أن يفتحوا آفاقًا مع أبنائهم بالحوار؛ حيث يدركون هم ما لا يُدرك هؤلاء الأولاد من الأبناء والبنات وعندهم من بُعْد النظر ما لا يملكه الأولاد، فكم هو جميل أن يوجد في الأسرة جلسة أحاديث ودِّيَّة، يتجاذبون فيها أطرافَ الحديث، ويتحاورون فيها وهي مفيدة جدًّا في بناء الروابط القلبية والنفسية بينهم.
إن هذه الجلسة وإن كانت ودِّيَّة، فهي حلٌّ لكثيرٍ من المشاكل، فكيف إذا كان منها نسبة تربوية مطروحة بينهم بحيث إن أحدهم يُقدِّم طرحًا مفيدًا في التربية والتعليم ولو كان يسيرًا، فلا شكَّ أن هذا مع الوقت سيكون رصيدًا تربويًّا ومعرفيًّا كبيرًا مع مضي الوقت، وهو من أهم الأسباب في جريان الحوار، فما أحوجنا أيها الإخوة والأخوات إلى تلاحُمنا في أُسَرنا وحوارنا بعضنا مع بعض وسلامة صدور بعضنا لبعض، فهذه غنيمةٌ عظيمة، مفتاحها وأساسها الحوار بيننا والتداخُل في مكامن نفوسنا، فإننا أسرةٌ واحدةٌ، لها خصوصيتها ومقامها التربوي والجيد.
أسألُ الله تبارك وتعالى لنا جميعًا البركةَ في الأعمال والأعمار وصلاح النية والذرية وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.