القارئ المتدبر للقرآن يجد المولى سبحانه وتعالى- وهو الكبير المتعال- يخاطب عقولنا ويبين لنا الكثير من الأمور من شأنها أن تقنعنا بما يريده منا، بل أنه سبحانه وتعالى يدعونا في كتابه إلى استخدام عقولنا والتفكر في كلامه كقوله تعالى : ( كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) البقرة 266 لنقتنع بما يحمله هذا الكلام من معان وأفكار، فينتقل ذلك كله إلى اللاشعور، ويترسخ فيه ، لينطلق بعد ذلك السلوك المعبر عنها بصورة تلقائية.
والمتأمل لسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم مع غيره خاصة عندما يريد إقناعه وتغير سلوكه فإنه يركز على الفكرة أولا .
ذهب عتبة بن ربيعة أحد صناديد الكفر إلى رسول الله ليحاوره، ويعرض عليه ترك دعوته ودينه مقابل ما يريد من مال أو جاه أو ملك. فما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن انتظر حتى فرغ من كلامه ثم تلا عليه صدر سورة فصلت حتى قوله تعالى : ( فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود). فلم يستطع عتبة أن يتحمل أكثر من ذلك فوضع يده على في رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده بالرحم أن يسكت ، وعاد إلى قومه فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد ، قال: ورائي أني سمعت قولاً والله ما سمعت مثله من قبل ، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة…. والمتأمل للآيات التي قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على عتبة يجدها تخاطب العقل وتقنعه بوحدانية الله عز وجل وبملكه التام والمطلق لهذا الكون ، وفي نفس الوقت فإن الآيات تثير المشاعر وتهز القلب وتخوفه، فينتج عن هذا امتزاج الفكر بالعاطفة ، وهذا ما حدث لعتبة لكنه لم يستثمر الفرصة العظيمة التي سنحت له .
ولا يخفى على طالب العلم قصة الأعرابي الذي بال في المسجد فعنفه الصحابة فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم وقال لا تزرموه وأمرهم بإراقة ذنوب من ماء مكان البول ثم نصح الأعرابي بأن بيوت الله ليست مكانا للقذر بعدها قال الأعرابي : اللهم ارحمني ومحمدا ولا ترحم معنا أحدا أبدا فرد عليه صلى الله عليه وسلم بقوله : (( لقد حجرت واسعا يا أعرابي )) .
فهنا النبي صلى الله عليه وسلم لم يسكت عن المنكر لكنه عالجه بالطريقة المناسبة وهي محاولة تغيير الفكرة قبل السلوك والتي كان نتاجها تغيير السلوك .
وانظر إلى هذا الحديث «إن فتى شابًا أتي النبي صلى الله عليه وسلم ? فقال: يا رسول الله، ائذن لي بالزنا – فأقبل القوم عليه فزجروه وقالوا: مه مه– فقال: أدنه. فدنا منه قريبًا، قال: أتحبه لأمك؟ قال: لا والله جعلني الله فداءك، قال: ولا الناس يحبونه لأمهاتهم، قال: أتحبه لابنتك؟ قال: لا جعلني الله فداءك، قال: والناس لا يحبونه لبناتهم… ثم تكرر السؤال أتحبه لأختك، لعمتك، لخالتك كما تكررت الإجابة السابقة إلى أن قال الراوي : فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده عليه وقال: «اللهم اغفر ذنبه وطهِّر قلبه وحصِّن فرجه» فلم يكن بعد ذلك الفتى يتلفت إلى شيء.
تأمل معي كيف عالج الرسول صلى الله عليه وسلم هذا السلوك دون التعنيف أو التحقير أو الضرب ولكن بالتركيز على تغيير الفكرة .