الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، وصلى الله على المبعوث رحمةً للعالمين ، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وسلَّم تسليماً، أما بعد :
فبعد التأمل في أحوال مجتمعاتنا وما ينوء به أفرادها من مخالفات متنوعة وفي مجالات عدة، وجدت أن من جملة ذلك المخالفات المتعلقة بفريضة بِرِّ الوالدين والإحسان إليهما، حيث يتكرر الإخلال بهذا الفرض الجليل، وتتنوع مظاهر العقوق.
وفي سبيل المعالجة لهذه القضية كان هذا المشروع: مشروع بر الوالدين، والذي ينتظم مجالات عدة وعبر عدد من الأساليب والقنوات.
وفي هذا السياق أعرض أحد المواقف التي وقفت عليها بنفسي:
** ** **
موقف من المواقف التي تبكي لها الفضيلة وتنعاها المروءة…
موقف أترك وصفه لنفس مكلومة ويسوقه فؤادٌ مجروح وتعرضه كَبِدٍ حرَّى …
تقول الشاكية إلى ربها ضعف جانبها وقلة حيلتها:
توفي والده في مقتبل عمري فلم يهن عليَّ أن أتشاغل عنه بزواج خشيةً عليه ، فوقفت حياتي.. كلَّ حياتي: صباحها ومساءها ، ليلها ونهارها لأجله ، وتمضي الأيام ، وأنا أعدُّها عداً أنتظر ذلك اليوم الذي أُراه فيه في مصاف الرجال ، وقد كرست كل جهدي لتربيته على معالي الأخلاق وأفاضلها ، ووطنت نفسي أن أبذل كل ما أستطيع حتى يبلغ ذلك المقصد الجليل.
فلم يزل يترقى في دراسته ، حتى نال من الشهادات أعلاها ، وهاهو يوشك أن يتبوأ الوظيفة المرموقة والوجاهة بين الناس ، فسعيت لتزويجه بامرأة تسعده وتلاحظ خاطره بعد أن كللت وضعفت عن خدمته لكبر سني وبدأ الشيب يجهز على بقية باقية من شعرات سُودٍ في رأسي.
وهاهو أول أولاده ماثلٌ بين يدي فرأيت فيه طفولة ابني وفلذة كبدي، وأعادني لذكريات تليدةٍ إبان تربيتي لأبيه ، ويسألني حفيدي ذات يوم ببراءة الطفولة ما هذه الخطوط التي تحف وجهك من جانبيه يا جدتي ، وكأنه يقرأ آثار الأيام السالفة .
ولدى بلوغي هذه المرحلة من العمر إذا بأمور تحدث في جنبات البيت، لتبدأ زلزلة كياني وهز وجداني ، حيث فوجئت بزوجة ابني وقد قلبت لي ظهر المجن ، لأعود ضحوة أحد الأيام ، فأجد سريري ومتاعي وثيابي عند عتبة الباب…!!
يا للعجب… لعل حريقاً قد حلَّ بالبيت أثناء غيبتي!!
أم لعلهم أرادوا تجديد أثاث البيت؟!.
وبعد أن طرقت الباب ، إذا بزوجة ابني ، تطلق رصاصات قاتلة من بين ثنايا فمها فتقول: قد تحملناك في السنين الماضية ، فلتذهبي إلى إحدى أخواتك أو بعض أقاربك ، فالبيت يضيق بك… وبتِّ شخصاً غير مرغوبٍ فيه عندي… وعند زوجي… الذي هو ابنك.
فانعقد لساني ، ولم أحر جواباً ، وبقيت عند الباب أنتظر حضور ابني فهو أملي بعد الله، ولن يرضى لأمه أن يُساء لها… ولا أن يقال لها ربع هذا الكلام.
ولما حضر ابني أخبرته الخبر… وأنا أحاول أن تكون ردة فعله متعقلة غير متسرعة… خشية أن يطلق زوجته أو يضربها بسبب جرأتها.
ثم كانت المفاجأة… المفاجأة التي شعرت معها كأن جمراً يتوقد بين أضلعي… إنه يؤكد خبر زوجته ، ويقول .. ولكن بإمكانك لفترة مؤقتة أن تسكني في الغرفة الخارجية الملحقة بالسور، وأن تضعي متاعك في الغرفة العلوية في السطح إلى تجدي أن مكاناً تذهبين إليه!!!.
يا ترى من الذي أمامي .. أهو ابني .. أم أنه مسخ له .. هل ؟! هل ؟! لا يمكن… مستحيل؟
لقد انعقد لساني… وجف دمعي… وخارت قواي…
ولكن لا مجال لي إلا أن أرضى بما عرضوه علي… فلا حيلة لي ولا خيار…
ثم تتوالى الأيام حُبلى بما لا يمكنني وصفه.
فمسكني في غرفة ملحقة في سور المنزل، حيث لا أنيس ولا جليس.
ودخول البيت والجلوس معهم محرم عليَّ ، ولقد حاولت فما كان جزائي إلا التبكيت والتعنيف من سيدة البيت.
أما طعامي فعليَّ أن أنتظر حتى تنتهي سيدة البيت وزوجها منه ، ثم أجد ما فضل عنهم عند عتبة الباب بعد أن أخذ مني الجوع كل مأخذ.
وأما زوجها فقد قرر أن هذا بيتها وهي سيدته ، وأنها بنت الناس… لا يملك أن يمنعها من حقها في إدارة بيتها!! فلها أن تمنع من شاءت، وأن تأذن لمن شاءت… وأن الحياة مراحل وفترات فلا ينبغي أن يأخذ أحد من عمر أحد؟
ومع كل ذلك كان قلبي متعلقاً به ، بل حتى برؤيته ، بل حتى برائحته.
فمع كل ما أقاسيه كنت أتمنى رؤية ابني وأولاده ولو دقائق معدودة في الأسبوع ، ولكن هيهات.. هيهات ،
فحظي منهم أن أرمقهم من فتحة بابي عند دخولهم أو خروجهم وهم لا يشعرون.
ولن أنس ما حييت ذلك اليوم الذي خرجت فيه من غرفتي عندما سمعت بكاء حفيدي الصغير بجانب غرفتي ، فاحتضنته وتشممته… فتذكرت بريحه ريح ابني الوحيد، تذكرت طفولة ولدي يوم كنت أرضعه وأنظِّفه وألاعبه،
فلم أتمالك إلا أن أحمله وأضمه إليَّ وأقبله ، وأقبل يديه ورجليه… ولم يقطع عليَّ هذه اللحظات الرائعة إلا…
نعم إلا وكزةٌ على كتفي..
لقد فوجئت بأمه من ورائي تدفعني.. وتوبخني.. وتنتزعه مني..
وتنهرني: ماذا تريدين أيتها العجوز بهذا الطفل الصغير، ألا تتأدبين وقد سمحت لك بالبقاء
حتى تتجرئي وتمتد يدك إلى ولدي؟!!.
ثم غادرت الغرفة بحفيدي… وكأنما اقتلعت معها جزءاً من كبدي.
ولما كان من المساء طرت فرحاً بحدث غريب…
إنه ابني شاخصٌ فوق رأسي داخل غرفتي ولأول مرة… يا للفرحة… يا للسعادة. في الصباح حفيدي والآن ولدي…
وبرغم عجزي وضعفي.. إلا أن القوة تعود إلى بدني وهاهي روحي تبتهج فقد نهضت فرحةً بدخول ولدي إلى غرفتي بعد أن لم يطأ عتبتها منذ أشهرٍ عديدة…
لكن سرعان ما تبدد هذا الفرح… لقد تبخر مع عبارات التوبيخ والتقبيح من ابني تجاهي .. لماذا ؟
لماذا يا بني؟! أي خطأ مني… أي جريمة اجترحتها حتى تهددني وتوبخني وتقبحني؟؟ لماذا يا حبيبي؟.
يبدو أنك بدأت تخرفين… أو أنك تعاندين!
ألم أمنعك من التدخل فيما لا يعنيك؟
ألم نمنعك من الدخول إلى البيت؟
ألا يكفي أنها سمحت لك بالسكن في هذه الغرفة؟
كيف تجترئين لتأخذي الطفل إلى هذه الغرفة؟
ألا تعلمين أنك بذلك قد تسببين له المرض بسبب غرفتك الملوثة.
ألا تعلمين أنك ستعدينه بصحتك المتدهورة؟.
يا أسفاه يا ولدي…!!
إذاً أنت تعلم أن الغرفة غير صحية؟
وتعلم أن صحتي متدهورة وأني أعاني من أمراض مزمنة؟
لك الحق بأن تخاف على ولدك بسبب وجوده قرب المرض للحظات.
لكن ألا تخاف عليَّ والمرض يساكنني في غرفتي ويلازمني في بدني؟!.
يا بنيَّ والله ما قصَّرت معك منذ كنتَ في أحشائي وبعد ولادتي لك…
يا بني لقد كنت أشتري راحتك وصحتك وسعادتك بتعبي ومرضي وشقائي.
يا بني أنت أملي في الحياة… فلا تكن نهايته بألمي…. أرجوك يا بنيَّ… أرجوك…
** ** **
هذا أيها الشيخ فصلٌ من فصول حياتي… وما خفي أقسى وأفظع.
ولقد دعتني بعض قريباتي ممن علم بحالي لأن أنتقل عندها وأفارق حياة العذاب تلك ، ولكني أقول مع كل ذلك ، إني سأتحمل ما بقيت في هذه الحياة تلك الحال حتى لا أحرم رؤية ابني لثوان محدودة وذلك عندما أسمع فتحه باب المنزل ويدلف إلى زوجته وأولاده ، والله يتولَّى أمري.
** ** **
كان ذلكم وصفاً مقتضباً وسرداً مختصراً لموقف تبكي من أجله المرؤة وتأباه الشهامة فضلاً عن كونه منظراً بشعاً للعقوق القبيح …
إنها حال عدد من المخذولين الذين أغوتهم شياطين الجن والإنس فساموا أمهاتهم سوء العذاب.
إن هذه الحال لولا أن صاحبتها قصتها عليَّ لحسبتها نسجاً من الخيال…
إنها وإن كانت حالات محدودة وقليلة ، إلا أن وقوع حادثةٍ واحدة على غرارها لمما يحزن النفس ويكدر الخاطر .
ويا سبحان الله .. كيف ينسى ذلك العاق ضعف طفولته… ومسكنة صغره…؟
ألا يذكر يوم كان حملاً في أحشاءها تسعة أشهر مشقة بعد مشقة… فلا يزيدها نموه إلا ثقلاً وضعفاً ، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ)؟
أم كيف يتناسى إشرافها على الموت عند وضعها له، فإذا بها تعلِّق آمالها عليه وهو لا يملك من أمر نفسه شيئاً… لكنه رأت فيه بهجة الحياة وزينتها ما أنساها كل ما قاسته ، وجعلها تزداد بالدنيا تعلقاً وحرصاً.
أم كيف يتناسى إشغالها نفسها بخدمته ليلها ونهارها ، تغذيه بصحتها ، وتريحه بتعبها ، طعامه دَرُّها ، وبيته حجرها ، ومركبه يداها وصدرها ، تجوع ليشبع ، وتسهر لينام.
أم كيف يتناسى انجذابه في طفولته نحوها… في كل أحواله وشئونه…
فسبيله لدفع جوعته مناداة أمه…
وسبيله لدفع عطشه مناداة أمه…
وسبيله لدفع الأذى مناداته أمه…
حتى بات في مخيلته أنَّ كل خير في كنفها…
وأنَّ الشر لا يصله إذا ضمته إلى صدرها أو لحظته بعينها…
أفبعد كل ذلك يكون جزاؤها على هذه الشاكلة…
قهرٌ وعقوق… عصيانٌ وجحود… قطيعةٌ وصدود!!!
ألا يعلم من كان على هذه الطريق العوجاء من الأولاد أن إحسان الوالدين عظيم وأن فضلهما سابق…
ألا يعلم أنه لو بذل لهما أموال الدنيا وشغل نفسه بهما ليلاً ونهاراً ما وفَّاهما حقهما…
وخاصةً الأم التي قاست الصعاب والمكاره بسبب المشقة والتعب من وِحامٍ وغثيان وثُقل وكرب وغير ذلك من شدائد الحمل والوضع (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً).
فوالله إن لهذا الصنف من الجاحدين… أهل العقوق والجحود…. إن لهم من الله في هذه الدنيا يوماً يعضون فيه أصابع الندم ويلاقون سوء جحودهم ونكرانهم.
لقد قضى الله أن لا يوفق عاق…
وأن تغلق في وجه العاق كل أبواب الخير.
وأن يوافى بالعقوبة في الدنيا قبل الآخرة فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرُ أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لِصَاحِبِهِ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا يَدَّخِرُ لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ ” رواه أحمد وأبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجة وصححه الألباني.
وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ” ثلاثةٌ لا ينظرُ الله إليهم يومَ القيامة: العَاقُّ لوالديه، ومُدْمِنُ الخَمْرَ، والمنَّان ” أخرجه النسائي والبزار وصححه ابن حبان والحاكم.
فيا ويح من عق أمَّه وأباه… كم من الخير فاته؟! وكم من الرزق تخلى عنه؟!
المصدر : صيد الفوائد .