الأحد 22 ديسمبر 2024 / 21-جمادى الآخرة-1446

أولادنا بين الرعاية والتربية



نتيجة بحث الصور عن خالد الحليبي
هل ستكفي تلك الفائدة الرائعة التي تداولها الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي لحل معضلة الفهم الخاطئ، والخلط المسيء للمسؤولية الوالدية، بين الرعاية والتربية، فلا أزال أسمع من يمن على أولاده بأنه يقدم لهم كل ما يحتاجون وأكثر، ولكنهم أخفقوا في دراستهم، أو ضاعوا مع صداقات سيئة، أو أساءوا التعامل مع والديهم، أو أنهم لم يكونوا كما كان يحلم.

لا يزال هذا الأب يظن أن التربية مجرد توفير للمأكولات والمشروبات واللباس والمأوى، والتسجيل في المدارس والجامعات، ونسي أن هذا مما يمكن أن تقدمه أية مؤسسة خيرية لمن فقد هذه المستلزمات الإنسانية، ثم لا يمكن أن نسمي تلك الخدمات وحدها (تربية).

لا يزال ذاك الأب يتخيل أن كدحه في العمل، وضربه في الأرض، ابتغاء مزيد من الدخل هو الأهم لتأمين المستقبل لأولاده، والمؤلم حين يأتي المستقبل فيجد من أولاده من لا يستحق ذلك الجهد الزائد الذي كان يبذله من أجلهم، فإن توافر المال لن يحرز أي تقدم في مضمار بناء شخصياتهم، بل قد يكون أحد أهم أسباب انحرافهم، وليس– فقط– توقف نموهم المعرفي والسلوكي. حين يشعرون وهم في مطالع الحياة بألا رقابة ولا اهتمام، ويفقدون التوجيه المحدد، والتخطيط الدقيق، وغرس الطموح في وقت مبكر، مع تدفق الأموال في أيديهم بلا محاسبة على وجوه الصرف، فالنتيجة الطبيعية الضياع، والانكفاء على الذات، والهروب من الحياة بأية وسيلة، باللجوء إلى مأوى مخصص للهو والعبث مع شلة شباب، بالتدخين الشره، بالمخدرات، بالسفر المشبوه، وربما بالاستجابة لأصحاب الفكر المنحرف الضال.

كيف يمكن أن يفهم المربي من لا يسمع منه ومن لا يطلع على سلوكه؟ كيف يقترب من نفسه ويتداخل معه بالحوار الأبوي الذي يجعل الولد يحس بصداقته أكثر من سلطته؟ كيف يمكن أن ينقل الأب إلى ابنه خبراته الناجحة، ويفيده بما يقيه من الأخطاء في خبراته السيئة؟

التربية لا تتحقق إلا بالمجالسة والمساندة، والاستماع والحوار، لفهم نفس الولد أولا، والتعرف على أفكاره واقتناعاته، وميولاته وطموحاته، والإسهام معه في بناء معارفه ومهاراته وخبراته من خلال ما يتوافر من مراكز علمية ومهارية، أو عن طريق المربي الخاص، والمعلم المتخصص، والبذل في هذا الطريق بكل سخاء.

في هذا الزمن نحتاج– باستمرار– إلى التعرف على مواقف أولادنا من كل يدور حولهم من أفكار مطروحة تستهدفهم في الدرجة الأولى، وبرامج مموهة مغشوشة موجهة لهم قبل أية فئة أخرى من فئات المجتمع، وكتب محقونة بالانحرافات، وروايات تصور الرذيلة في مرائي المتعة التي قد يتشوف إليها شاب غر وفتاة غضة، فمتى يبلغ البنيان يوما تمامه، إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟

نحتاج– في تربيتنا لأولادنا- إلى وسائل متجددة في غرس القيم، وتربية الكرام النبلاء الفخورين بقيمهم، المتمسكين بمبادئهم، المحبين لوطنهم، نوجه اهتمامهم إلى ما يستحق أن يعيش له الإنسان، نرتفع بهممهم من البحث عن مجرد المتعة الهابطة، إلى المتعة الراقية، حين يجرب متعة الإنجاز العلمي أو الإبداعي، ولن يحدث هذا ما لم يعرف قيمة الوقت، وأنه الحياة ذاتها، فإن مما رأيته بكاء الشباب المر بعد أن تمر به سنوات عمره الأولى دون أن يحقق أي إنجاز، ويكون ركب زملائه قد بلغ مأمله!

الشخصية ليست ذات بعد واحد، بل ذات أبعاد مختلفة وكثيرة، والتربية الصحيحة هي التي تتناول كل تلك الجوانب: الروحية، والصحية، والعقلية، والعاطفية، والاجتماعية، وتحمل المسؤولية، وبناء العلاقات وما يترتب عليها من فوائد أو مضار، وكيف تعقد وكيف توقف؟

التربية تقتضي وجود أمثلة عليا أمام المتربي، بدءا بالقدوة العظمى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ومن رباهم على يديه الكريمتين من آله وصحبه الكرام، إلى كل النجوم الزاهرة في سماء أمتنا المجيدة، إلى المبدعين المعاصرين، الذين يتابعهم، ويحرص على الاطلاع على منجزاتهم، ويمكن أن يعقد معهم علاقات تزيد من فرص الاستفادة منهم والاقتداء بهم.

ويبقى الوالدان ومن يقوم مقامهما من أكثر ما يؤثر في سلوك الولد ذكرا أو أنثى، شاءا أم أبيا، فكل ما يقرانه يستقر في ذاكرته، ويتغلغل في شخصيته، ويتطبع به، وكل ما ينفران منه، ويحذران منه سيكون موضع نفور من طبعه، إلا أن يحول بينهما وبينه تشاغل الوالدين، أو ارتباك الشخصية وعدم ثباتها، أو أكثر من ذلك، حين يكون دور الوالدين دور المراقب فقط، أو دور المعاقب، الذي ينتظر الأخطاء، ولا يلتفت إلى الصواب، فيكره الولد العيش في بيئة تحطمه ولا تبنيه، وتقهره ولا تحتويه، وهنا تقع كوارث البحث عن محاضن أخرى غير الأسرة، ثم يندم الوالدان ولات ساعة مندم.

http://www.alyaum.com/article/4180338

 
تصميم وتطوير شركة  فن المسلم