{ مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا }
قد يعجب البعض من ضرب الله مثلاً بالبعوضة في القرآن الكريم ، تلك الحشرة الصغيرة ، التي تبحث عن أكثر أماكن الإنسان نورًا ؛ لتحط رحلها فيه ، فتحيل هدوءه إلى تضجر وتبرم ، فتختفي مرة وتبدو مرة أخرى ، محاولة الانقضاض عليه في وقت قد أمنت جوارحه فيه إلى السكون والراحة ،
تلك الحشرة التي تعيش على الآخرين ، تهجم عليهم في غفلاتهم ، وتمتص منهم دماءهم ، فلا يملك حين يراها قد أفلتت طائرة من بين يديه إلا أن يطلق دعوات ممتزجة بزفرات التظلم والقهر بأن لا يحالفها التوفيق ، وأن يشفى غيظ قلبه فيها ؛ بأن يراها ميتة ودمه يقطر منها .
عذرًا أيها القرّاء الكرام :
إن كنت قد جرحت مشاعركم ، وأقلقت تفكيركم بالكلام عن هذه الحشرة ـ أعزكم الله ـ غير أني وجدتها في هذا الزمن تقود فئاما من الناس إلى طريقها ، وتنهج بهم سبيلها المظلم القاتم ، فساروا خلفها ، واتبعوا أثرها ، فأضحوا كأسراب البعوض ؛ يبنون حياتهم على أذى الآخرين ، ويسعدون أنفسهم على حساب غيرهم .
سرب أكلة لحوم الناس …
فيا عجبًا من هؤلاء !كيف وقر الوقر في آذنهم من قول الباري سبحانه وتعالى حين قال: { وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ } .
سرب الساعين بين الناس بالإفساد ..
وأيُّ وعيد يذكر لهم بعد وعيد الرسول صلى الله عليه وسلم حينما مرَّ بقبرين فقال : ( إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا : فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ ، وَأَمَّا الْآخَرُ : فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ ) رواه البخاري .
سرب الساخرين ..
وقد حاد بذلك عن من منهج الله القويم في كتابه الكريم حيث قال : { يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } .
سرب الجواسيس ..
ومن أسراب البعوض سرب لا يقل خطرًا على المسلمين من تلك الأسراب السابقة : اعتاد أن يترصد لأفعالهم وأقاولهم ، فيستمع منهم ما يكرهون سماعه ، ويتجسس على ما يحبون إخفاءه ، وقد تناسى أن لعباد الله أسرارا ، بل قد تناسى أن الله ينهاه عن ذلك و رسوله صلى الله عليه وسلم فقالا : { ولا تجسسوا } .
يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم 🙁 لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ ؛ فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ ، تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ ) ، رواه الترمذي .
لنعلم جميعًا أن كل هذه المحرمات توغر في الصدور الحقد والحسد ، وتبني في القلوب صروحًا مظلمة من الشحناء والبغضاء ، ولو كان أولها المزاح واللهو !!
سبيل الوقاية من أذى هذه الأسراب ..
لقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أن تستظل بظل الإخاء والترابط ، محذراً من العوامل التي تنقض عرى ذلك الرباط ، ومخوّفًا من إنشاء العداوات وأسبابها ، الخفية منها والظاهرة ، وإلا كيف يكون لهذا الدين كيان به تطبق أحكامه ، ويهابه به أعداؤه ،
ولا سبيل إلى هذه الغاية السامية إلا بتطهير القلوب من درن الغل المؤدي إلى تلك المساوئ التي تقدم الحديث عنها ، والتي جمعها قول الهادي البشير حينما قال : ( لَا تَحَاسَدُوا ، وَلَا تَنَاجَشُوا ، وَلَا تَبَاغَضُوا ، وَلَا تَدَابَرُوا ، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا ، الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ ؛ لَا يَظْلِمُهُ ، وَلَا يَخْذُلُهُ ، وَلَا يَحْقِرُهُ ، التَّقْوَى هَاهُنَا _ وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ _ بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ ، كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ ؛ دَمُهُ ، وَمَالُهُ ، وَعِرْضُهُ ) رواه مسلم .