الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
تذكــرة:
قد تفرد الإسلام دون غيره (بإحاطته وعمقه واستيعابه، وشموله) وما اهتم الإسلام بشيء قدر اهتمامه ببناء النفس [ ] وتربية الحس وإرهاف الوجدان وتنمية الشعور، والإسلام كدين فطري حيوي وخالد يأتي دائما البيوت من أبوابها ويعالج المشاكل من زواياها الطبيعية التي لا يكون العلاج إلا منها حتى إذا ما بني أو رتب كان البناء والترتيب على دعائم قوية بعيدة عن الثغرات والهزات وما ذلك إلا للوصول إلى أفق الكمال الذي يطلبه وارتقاء الوجدان الذي يرومه وبناء المجتمع الذي يبغيه بعيداً عن الهنات والمحقرات وذلك سموا بالمجتمع المسلم، من اجل ذلك جعل الإسلام لكل جانب من جوانب الحياة آدابا.
ولقد أراد الله -سبحانه وتعالى- للبيوت المسلمة أن تكون لها حرمتها وان تحاط بسياج من الاحترام والصون والترفع والوقار وينشأ فيها الأطفال [ ] تنشئة يرضاها الله ورسوله.
حرمـــة البيـــوت فـــــي الإسلام:
القرآن الكريم [ ] لم يغادر صغيرة ولا كبيرة من أمور الناس وقضاياهم إلا وتناولها بالإجمال أو بالتفصيل قال تعالى: ( يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [ ] وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها، ولكن البر من اتقى و أتو البيوت من أبوابها واتقوا الله لعلكم تفلحون)”البقرة: 189″ اخبرهم -سبحانه- أن البر الحقيقي هو تقوى الله -تعالى- بالتخلي عن الرذائل والمعاصي وهو عمل الخير والتحلي بالفضائل وإتباع الحق واجتناب الباطل، فأتوا البيوت من أبوابها، وليكن ظاهركم عنوانا لباطنكم بطلب الأمور كلها من مواضعها الشرعية واتقوا الله في كل شئونكم رجاء أن تفلحوا في أعمالكم، وبما أن البيت: مكانا ترفع فيه الكلفة وتنشر فيه الراحة، فقد حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقأوا عينه)( رواه البخاري [ ] ومسلم وأبو داود)، وروى أن حذيفة: جاءه رجل فنظر إلى ما في البيت ثم قال: السلام عليكم أأدخل؟ فقال له حذيفة: ” أما بعينك فقد دخلت، وأما بجسمك فلم تدخل”.
وقال الخطيب الشربيني في تفسيره: كم من باب من أبواب الدين هو عند الناس كالشريعة [ ] المنسوخة قد تركوا العمل بها، وباب الاستئذان من ذلك.
وجـوب الاســتئذان قبل الدخــول:
قال تعالى: (يا أيها الذين امنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون)”النور: 27″، لقد جعل الله البيوت سكنا يفييء إليها الناس، وتطمئن نفوسهم ويأمنون على عوراتهم وحرماتهم، ويلقون أعباء الحذر والحرص المرهقة للأعصاب، والبيوت لا تكون كذلك إلا حين تكون حرما آمنا، لا يستبيحه احد إلا بعلم أهله وإذنهم، وفي الوقت [ ] الذي يريدون، وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس، ويعبر القران الكريم عن الاستئذان بالاستئناس وهو تعبير يوحي بلطف الاستئذان ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق، فتحدث في نفوس أهل البيت أنساً به واستعداداً لاستقباله، وهي لفتة دقيقة لطيفة لرعاية أحوال النفوس، ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم، وسأل رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا السلام فما الاستئناس؟ قال: يتكلم الرجل بتسبيحة أو تكبيرة أو تحميدة ويتنحنح، ويؤذن أهل البيت، والسنة في الاستئذان: ثلاث مرات.
وصورة الاستئذان: السلام عليكم أأدخل؟ فان أذن له دخل وان أمر بالرجوع انصرف (ولا يكن في صدره حرج) والسنة في ذلك أن يعلن عن نفسه “بذكر اسمه” فقد روى “أن أبا موسى جاء إلى عمر بن الخطاب [ ] فقال: السلام عليكم: هذا أبو موسى”( رواه مسلم )، قال قتادة: إذا دخلت بيتك فسلم على اهلك فهم أحق من سلمت عليهم، وقال -تعالى-: (فان لم تجدوا فيها أحداً فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم، وان قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم و الله بما تعملون عليم)”النور: 28″، وبعد الاستئذان إما أن يكون في البيوت احد من أهلها أو لا يكون فان لم يكن فيها احد فلا يجوز اقتحامها بعد الاستئذان لأنه لا دخول بغير إذن وان كان فيها احد من أهلها فان مجرد الاستئذان لا يبيح الدخول، فإنما هو طلب للإذن، فان لم يأذن أهل البيت فلا دخول كذلك ويجب الانصراف دون تلكوء ولا انتظار.
وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء عمر إلى النبي [ ] -صلى الله عليه وسلم- وهو في مشربة له فقال السلام عليكم يا رسول الله، السلام عليكم أيدخل عمر؟( رواه الإمام احمد ).
اســــتئذان أهل البيت بعضهم على بعض:
من مقاصد الإسلام أن يتربى النشء ويشب الطفل في جو مليء بما يغرس فيه خصال الحياء [ ] بعيدا عما يدفعه إلى مهاوي البذاءة ويوقد فيه نيران الجنس، ومن وسائل الإسلام في ذلك: ألا يقتحم الأبناء الصغار والخدم الحجرات دون إذن مسبق، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر [ ] وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض، كذلك يبين الله لكم الآيات و الله عليم حكيم، وإذا بلغ الأطفال [ ] منكم الحلم فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم، كذلك يبين الله لكم آياته و الله عليم حكيم)”النور: 58 ، 59″، لقد سبقت في أول السورة أحكام الاستئذان على البيوت، وهنا يبين أحكام الاستئذان في داخل البيوت، أدب الله عباده حتى الأطفال [ ] أمروا بالاستئذان في الأوقات الثلاثة:
(1) قبل صـلاة الفجر: لأنه وقت النــوم.
(2) وقت الظهـــيرة: أي وقت القيلولة والراحة.
(3) وبعد صلاة العشاء: ابتداء وقت النــــوم.
وسماها -سبحانه- “عورات” لما يكون فيها من عدم التحفظ وهذا الأدب الرفيع لكي لا تقع أنظارهم على ما يكره.
وكثيراً ما يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية، مستهينين بآثاره النفسية والعصبية والخلقية، والعليم الخبير يؤدب المؤمنين بهذه الآداب الرفيعة، وهو يريد أن يبني امة سليمة الأعصاب، سليمة الصدور، مهذبة المشاعر، طاهرة القلوب، نظيفة التصورات حتى في الاستئذان على الأم وذوات محارمه وكل من لا يحل له النظر إلى عورته ولذلك قال النبي [ ] -صلى الله عليه وسلم- للذي سأله عن حكم الاستئذان على أمه فقال له: أتحب أن تراها عريانة؟ قال لا، قال فأستأذن عليها.
ومعناه -والله اعلم- انه إذا لم يستأذن عليها فقد يفاجئها فيراها على صورة لا يحب أن يراها عليها، فأما الزوجة [ ] التي يحل له النظر إليها فله أن يدخل عليها دون استئذان، ومع ذلك تروى زينب زوجة عبد الله بن مسعود قالت: كان عبد الله “أي زوجها” إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه.
وكذلك كان هديه -صلى الله عليه وسلم- أثناء العودة من سفر كان يرسل إلى أهله من يخبرهم بموعد حضوره لكي تتهيأ له، كذلك لكي لا يرى منها ما لا تحب أن يراها عليه “عادة ما تكون الزوجة [ ] منهمكة في عمل البيت وتربية الأطفال فتكون غير مستعدة لاستقبال زوجها على هذه الصورة” ويقول الشاعر في ذلك:
خـير النســـاء من ســرت الزوج [ ] منظرا *** ومن حفظته في مغيب ومشــهد
مــن روائـــع الإسلام في أدب البيــوت:
(1) عدم استقبال الباب عند الاستئذان لما روى أبو داود عن عبد الله بن يسر قال: كان رسول الله إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر فيقول: “السلام عليكم”.
(2) حرمة الدخول على المغيبات “أي التي غاب عنها زوجها” سواء من غريب أو قريب حتى اخوالزوج [ ] فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: “لا يخلون أحدكم بامرأة فان الشيطان [ ] ثالثهما، ومن سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن” وخاصة للقريب فربما تتيح له القرابة ما لا يتاح للغريب.
(3) أن يرفع صوته بالإذن فربما يكون أهل البيت في مكان بعيد.
(4) عليه أن يستأذن ثلاث مرات فان لم يأذن له رجع ونفسه راضية.
(5) إذا كان ضيفاً فلا يقترح طعاماً معيناً ولا مكاناً بعينه.
(6) إذا أذن له بالدخول فعليه بإتباع آداب الطعام ولا يتطلع إلى غير ما قدم له أو ينظم على أهل البيت.
(7) وتكون صفة دق الباب خفيفا بحيث يسمع ولا يزعج فقد روى انس بن مالك -رضي الله عنه- قال: كانت أبواب النبي [ ] -صلى الله عليه وسلم- تقرع بالأظافر.
نـــدم وحســرة:
لا تزال هذه الأمة بخير مادامت متمسكة بأهداب دينها حريصة على ما شرعه ربها غير مبدلة ولا مغيرة ولا محرفة. وفي مقابل كل أدب يتركه أفرادها، أو فرض يعطلونه فهناك باب من الشر يفتحونه على أنفسهم وباب من الخير يغلقونه، وما ظهرت هذه الفتن [ ] تطالعنا بها الجرائد والمجلات من قتل وهتك عرض وفواحش نتنزه عن ذكرها، التي تخالف ابسط أسس الأخلاق [ ] إلا كان السبب هو الابتعاد عن شرع الله وعن سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والتمسك بقانون الغاب فقد قال وأوصى -صلى الله عليه وسلم-: “لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي”( رواه احمد وأبو داود)، ولكن تنكب الناس الطريق فلا يصاحبوا إلا اشر الناس واختاروا من له سلطة أو مال.. الخ ليكون صديقاً له ولعائلته وأصبحنا نسمع كلمة “صديق العائلة” حتى يأخذ صديق العائلة على مر الزمان صفة صاحب البيت فيخرج ويدخل في أي وقت شاء… وتطالعنا الصحف وتظهر النتائج وصدق من قال فيهم “فضل الكلاب على كثير ممن لبس الثياب” لان الكلب وفي في حق صاحبه وأهل بيته فهو يذود عنهم كل خطر، ولكن الخطأ ليس على صديق العائلة ولكن على الذي أذن له وسمح له بانتهاك حرمات الله ولم يقتدي بشرع الله وجروا وراء المدنية الزائفة والاختلاط [ ] المستهتر فكان لابد من ظهور (الأمراض التي لم نرى قبل ذلك من قتل للأولاد والأبناء والأزواج وقسوة للقلوب)…
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين