لم تقولون ما لا تفعلون .
إن الإيمان ليس مجرد كلمات يقولها الإنسان بلسانه ، أو عبادات ,إنما الإيمان سلوك ومعاملة وأخلاق تترجم إلى واقع حي يراه الناس ، فصاحب الإيمان الصحيح تظهر آثاره في السلوك والالتزام مؤشراً على صدقه وصلاحه.
ومن ناحية أخرى فالعبادات في الإسلام لها حكم أخلاقية سلوكية وقلبية ,فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والصيام يغرس التقوى والرحمة للفقراء والمساكين والزكاة طهارة من الشح والبخل والأثرة والحج يغرس التواضع وحب المسلمين وكراهية الشر بأنواعه.
والمؤمن لا يخالف قوله فعله ، وهو الذي يبدأ بنفسه أولاً فيحملها على الخير و البر ، قبل أن يتوجه بهما إلى غيره ليكون بذلك الأسوة الحسنة والقدوة المثلى لمن يدعوهم ، وليكون لكلامه ذلك التأثير في نفوس السامعين الذين يدعوهم ، بل إنه ليس بحاجة إلى كثير عندئذ
، فحسْبُ الناس أن ينظروا إلي واقعه وسلوكه ، ليروا فيهما الإسلام والإيمان حياً يمشي أمامهم على الأرض وليشعّ بنوره على من حوله ، فيضيء الطريق للسالكين ، وتنفتح عليه العيون ويقع في القلوب ، فيحمل الناس بذلك على التأسي والإتباع ..
فهو يدعو بسلوكه وواقعه قبل أن يدعو بقوله وكلامه.. ولنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خير أسوة ، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا أمر الناس بأمر كان أشد الناس تمسكاً به ، وكان يحمل أهل بيته على ذلك قبل أن يدعو غيرهم .
وما أعظم ذنب أولئك الذين يصدون عن دين الله ويقفون حجرة عثرة أمام الدخول فيه والتمسك بأحكامه ؛ لأنهم بسلوكهم ذاك ينفّرون الناس من الدين، وتنطلق الألسنة المتبجحة لتقول : انظروا إلى فلان .. إنه يدعونا إلى شيء ويخالفنا إلى غيره ، ولو كان ما دعونا إليه حقاً لاتبعه وتمسك به ؟ فيتركون – عندئذ – الدين ، بسبب سلوكه ذاك ! !
وكم يتحملون من أوزار الذين تابعوهم في سلوكهم ذاك ، إذ أنهم حملوهم على المخالفة والإثم بالإيحاء والقدوة العملية ، ولولاهم ما وقعوا في ذلك ، فهم الذين سنَّوا هذه السنة السيئة فكان عليهم إثمهم وآثام من اتبعهم فقد : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه مسلم : « من سنَّ في الإسلام سنَّة سيئة يُعمل بها من بعده ، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء ».
وما أجمل الحكمة التي أجراها الله تعالى على لسان أبي الأسود الدؤلي ، عندما قال :
يا أيها الرجل المعلم غيره … هلا لنفسك كان ذا التعليم
تصف الدواء لذي السقام وذي الضنى … كيما يصح به وأنت سقيم
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها … فإن انتهت عنه فأنت حكيم
لا تنه عن خلق وتأتي مثله … عار عليك إذا فعلت عظيم
والغالب على المسلم الخوف من عدم القبول يصف ربنا تبارك وتعالى حال العباد الصالحين إذ يقول: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) المؤمنون:60، 61
. أخرج الإمام أحمد أن أمّنا أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن المذكورين في الآية: أهم الزناة والسرّاق وشربة الخمر، يفعلون ذلك وهم يخافون الله؟! فأجابها المصطفى ص بقوله: ((لا يا بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله عز وجل)).
وقد كان هذا دأب سلفنا الصالح، فهذا محمد بن واسع يقوم ليله يبكي حتى إن جيرانه لم يناموا من بكائه، فلما كانت صلاة الفجر كلّمه جاره فقال له: ارفق بنفسك وبنا، فوالله ما نمنا البارحة من بكائك، قال: “والله، إني عندما صففت قدميّ بين يدي الله البارحة تصورت أن الجبار جلّ جلاله يناديني فيقول: يا محمد، اعمل ما شئت، فلن أتقبل منك”. فاحرصوا ـ رحمني الله وإياكم ـ على القبول من ربكم في كل عمل تعملونه صغيرًا كان أم كبيرًا.
وكثيراً ما اسمع الشيخ محمد حسان وهو يقول في آخر خطبه “أعوذ بالله أن أذكركم وأنساه وان أكون جسراَ تعبرون به إلى الجنة واقع أنا في النار”.
ولله در بن الجوزي وهو يقول كما في صيد الخاطر:” ولقد تاب على يدي في مجالس الذكر أكثر من مائتي ألف، وأسلم على يدي أكثر من مائتي نفس.
وكم سالت عين متجبر بوعظي لم تكن تسيل.
ويحق لمن تلمح هذا الإنعام أن يرجو التمام.
وربما لاحت أسباب الخوف بنظري إلى تقصيري وزللي.
ولقد جلست يوماً فرأيت حولي أكثر من عشرة آلاف ما فيهم إلا من قد رق قلبه. أو دمعت عينه. فقلت لنفسي: كيف بك إن نجوا وهلكت: فصحت بلسان وجدي: إلهي وسيدي إن قضيت علي بالعذاب غداً فلا تعلمهم بعذابي صيانة لكرمك لا لأجلي، لئلا يقولوا عذَّب من دل عليه”.