الخميس 26 ديسمبر 2024 / 25-جمادى الآخرة-1446

تعلم.. ابتكار البدائل والحلول



تعلم.. ابتكار البدائل والحلول 

د. علي الحمادي 

جاء رجل إلى يونس بن عبيد، فشكى له ضيقًا من حاله ومعاشه واغتمامًا منه بذلك، فقال له يونس:

“أيسرك ببصرك هذا الذي تبصر به مائة ألف؟”, قال: “لا“, قال: “فسمعك هذا الذي تسمع به أيسرك به مائة ألف؟”, قال: “لا”, قال: “فلسانك هذا الذي تنطق به أيسرك به مائة ألف؟”, قال: لا, قال: “فيداك اللتان تبطش بهما, أيسرك بهما مائة ألف؟”, قال: “لا”, قال: “فرجلاك اللتان تمشي عليهما أيسرك بهما مائة ألف؟”, قال: “لا”, وما زال يذكره بنعم الله عليه، ثم أقبل عليه يونس قائلًا: “أرى لك مئين ألوف وأنت تشكو الحاجة؟!”.

هذا هو المبدأ الثالث من المبادئ الأربعة الرئيسية لمشروع التفاوض في جامعة هارفارد، والذي يدعو إلى عدم الاكتفاء ببديل واحد، وإنما ينبغي البحث عن عدد من البدائل التي تحقق مصلحة الطرفين.

إن التفكير في عدة خيارات يجعل للطرف الآخر فرصة أكبر للاقتناع بأحد هذه الخيارات والقبول به, فما بالك لو أضفت إلى هذه الخيارات صفة مهمة ومؤثرة في العملية الإقناعية ، ألا وهي أن هذه الخيارات تحقق مصلحة الطرفين، أي هي فوز ومكسب للطرفين, (فوز × فوز) وليست فوزًا لطرف وخسارة للطرف الآخر (فوز× خسارة) .

إن تعدد الخيارات والبدائل يجعل العملية الإقناعية أكثر سهولة ويسر, ذلك لأن الله تعالى خلق الناس مختلفين في طريقة تفكيرهم ونمط شخصيتهم ولون مزاجهم, ولذا يصعب في كثير من الأحيان إقناعهم برأي قد لا ينسجم مع طبيعة تفكيرهم وشخصيتهم, وصدق الله تعالى إذ يقول: “وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ” (هود: 118- 119.(

إن التكامل مطلوب بين البشر، وبه تتم عمارة الدنيا، فألوان الطيف جميلة ممتعة بهية، والاكتفاء بلونين (الأبيض والأسود( قصور وتحجير واسع، والعقل السوي يحب التنوع، والحكمة تقتضي التعايش مع جميع ألوان الطيف دون التنازل عن القيم والمبادئ والأصول.

إننا قادرون أن نأتي بعدد كبير من الاقتراحات والبدائل والخيارات التي يمكننا بها إقناع كثير من الناس لو أننا أعملنا عقولنا، واجتهدنا في البحث, وتعمقنا في التأمل, وقرأنا ما تحت السطور, واستعنا قبل ذلك وبعده بالله عز وجل. كثير من الناس – الذين لا يحسنون فن الإقناع – يتحاورون (أو يتفاوضون) وهم يضعون نصب أعينهم حلًا (أو بعدًا) واحدًا، وأحيانًا أخرى يواجهون ما يشبه أن يكون اختيارًا بين هذا أو ذاك، وهو اختيار إما أن يكون لصالحهم بشكل واضح، وإما أن يكون لصالح الأطراف الأخرى.

فمثلًا: في حالة التوصل إلى تسوية بشأن الطلاق: مَنْ مِن الطرفين يحتفظ بالمنـزل؟ ومن له حضانة الأطفال؟

فإنك قد تنظر إلى الاختيار كأنه اختيار بين الفوز أو الخسارة، وما من أحد من الطرفين يقبل الخسارة، وإذا فاز أحدهما فسوف يتولد عنده إحساس عميق بأن الطرف الآخر سيكون له بالمرصاد ولن ينسى ذلك. ومع كل هذا، فكثيرًا ما ينتهي الأمر بالمفاوضين أو المتحاورين إلى النهاية التي تشبه قصة الشقيقتين اللتين تشاجرتا بشأن برتقالة ثم توصلتا في النهاية إلى اتفاق يقضي بقسمة البرتقالة إلى نصفين، فأخذت الشقيقة الأولى النصف الذي يخصها وأكلت الثمرة ورمت قشرته، بينما رمت الشقيقة الثانية الثمرة واستخدمت قشرة نصف البرتقالة الذي يخصها لصنع كعكة. نعم, غالبًا ما “يترك المفاوضون النقود على المائدة”، وكثيرًا ما تنتهي العديد من جلسات الإقناع والمفاوضات بنصف برتقالة لكل طرف بدلًا من أن تكون الثمرة كلها لطرف، والقشرة كلها للطرف الآخر (1( .

تأمل معي الحوار الذي دار بين عُبيد بن عمير وبين المرأة الجميلة التي حاولت فتنته وإغراءه، وكيف أنه استطاع أن يقلب كيانها ويغير حالها خلال دقائق معدودات حينما عرض عليها أكثر من موقف.

يُروى أن امرأة جميلة بمكة نظرت يومًا إلى وجهها في المرآة فقالت لزوجها: أترى أحدًا يرى هذا الوجه ولا يُفتن به؟ قال: نعم، قالت: من؟ قال: عُبيد بن عمير, قالت: فائذن لي فيه فلأفتننه، قال: قد أذنت لك. فأتته كالمستفتية، فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام، فأسفرت عن مثل فلقة القمر، ثم قالت: إني قد فُتنت بك، فانظر في أمري، قال: إني سائلك عن شيء فإن أنت صدقتيني نظرت في أمرك، قالت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك. قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك، أكان يَسُرُّكِ أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقتِ. قال: فلو دخلتِ في قبرك وأُجلسْتِ للمساءلة، أكان يُسُرُّك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقتِ. قال: فلو أن الناس أُعطوا كتبهم ولا تدرين تأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك، أكان يسرك أنى قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقتِ. قال: فلو جيء بالموازين وجيء بك لا تدرين تخفِّين أم تثقلين، أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت. قال: فلو وقفت بين يدي الله للمسألة، أكان يسرك أني قضيت لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقتِ.

قال: اتقي الله يا أمة الله، فقد أنعم الله عليك وأحسن إليك. فرجعت المرأة إلى زوجها، فقال: ما صنعتِ؟ قالت: أنت بطَّال، ونحن بطالون. ثم أقبلت على الصلاة والصوم والعبادة (2) .

إن عرض البدائل المتنوعة والخيارات المتعددة ضروري لإقناع الطرف الآخر إلا في حالة واحدة وهي عندما تكون هذه الخيارات متعارضة مع قيم الطرف الآخر ومبادئه الأصيلة وعقيدته الراسخة، ولعل في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بدائل وخيارات وعروض عتبة بن ربيعة خير شاهد على ذلك.

تروي لنا كتب السيرة أن عتبة بن ربيعة جلس إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم), فقال له: يا ابن أخي, إنك منا حيث قد علمت من السِّطة (أي الشرف) في العشيرة, والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم, فرقت به جماعتهم, وسفَّهت به أحلامهم, وعِبْت به مَنْ مضى من آبائهم, فاسمع مني أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها.

فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): “قل يا أبا الوليد, أسمع”، فقال له عتبة: يا ابن أخي، إن كنت تريد بما جئت به من هذا الأمر مالًا جمعنا من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالًا، وإن كنت تريد شرفًا سودناك علينا حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيًا تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك طلبنا لك الطب وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع (أي الصاحب من الجن) على الرجل حتى يداوى منه.

حتى إذا فرغ عتبة قال له رسول الله (صلى الله عليه وسلم): أَوَ قد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع مني. قال: أفعل. فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتلو عليه من سورة فصلت, حتى إذا انتهى إلى الآية موضع السجدة منها وهي الآية (37) سجد ، ثم قال لعتبة: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذلك, فقام عتبة إلى أصحابه, فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به.

وطلب عتبة إليهم أن يدعوا الرسول وشأنه, فأبوا, وقالوا له: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال: هذا رأيي فيه فاصنعوا ما بدا لكم (3) .

المصدر : الإسلام اليوم .



تصميم وتطوير شركة  فن المسلم